خدعة معافر...
تاريخ النشر : 2020-11-06 01:18

نيفين جابر* :

سجين هو لهذه الغرفة منذ.. لم يعد يحصي السنين، حتى أنه لم يعد يتذكر سر وجوده في هذه الغرفة، التي رغم اتساعها لا يوجد بها سوى سرير غير وثير وحوض للإستحمام ممتليء بالماء النظيف دوما. هو لا يدري في اي وقت يغافله السجان ويلج إلى الغرفة ليضع له الطعام ويبدل ماء الحوض. يرتدي دوما بيجامته الزرقاء والتي يبدلها بأخرى من نفس اللون والخامة، يجدها على المقعد الملاصق لمائدة يأكل عليها. بعض الأوراق هناك على المائدة أيضا. لا يدري هل هو من خط ما بها أم أن احدهم يدفعه إلى قرائتها. لذا قرر ألا يقرأها.

صمم في يوم أن يبقى مستيقظا لعله يباغت سجانه حين يلج إلى الغرفة كالمعتاد. استوى في سريره وتظاهر بالنوم ولم يبد ساكنا لوقت طويل. سمع صوت الماء في الحوض ينصرف إلى مجراه، إلا أنه آثر أن يصبر قليلا حتى لا يصرف الشخص الذي يفرغ الماء، وبات يتلمس بأذنيه ما يجري حوله. استمر الصمت لفترة جعلته يظن أنه قد غفا ولم يلحظ شيئا. تلفت حوله ليجد بيجامته النظيفة والمطوية جيدا والطعام كل في مكانه. وحتى حوض الإستحمام كان مليئا بالماء النطيف.

زنزانته التي هو حبيسها لسبب غير معلوم ليس لها باب. قال أنه لابد من باب سري يلج منه هذا السجان ومنه قد يستطيع الهروب. استمر في يوم يفتش كل سنتيمتر من الجدار لعله يجد مفتاحا للباب السري، حتى أنه قد فتش في أرض الغرفة عن بلاطة مختلفة قد تكون منفذه المنشود أو قد يضغط عليها بشكل يفتح بابا في الجدار، إلا أن كل محاولاته باءت بالفشل.

جلس يستريح من بحثه المضني، فإذا به يسمع صوت خروج الماء من الحوض، هب لينظر سريعا في الحوض ليجد صورته تتلألأ في الماء. تعرف على صورته من البيجامة الزرقاء. كلما انحسر الماء، بدت صورته اشد وضوحا حتى انحسر الماء عن جسده بلا حراك في الحوض.

السماء على رحبها ملك ليّ.. ها هونور الفجر يتلألأ معلنا بدء حفل الصباح.. الطيور تبدأ في الصحو الجميل، كلٌ يغرد وهو يتأهب لمغادرة العش، هم ينادون على بعضهم البعض كإشارة انطلاق، فيملئون الكون اغنيات سعيدة. السحابات ترتدي معطفها الأبيض وتخرج في رحلتها الصباحية مودعة إياي. ابتسم لها ولأخريات يتابعون حركتهم الرشيقة.

ها هو النجم الأكبر ينشط ويقترب.. اشعته المهيبة لا تقوى على النظر إليها مباشرة، إلا أنني احاول بين لحظة واخرى أن اختلس النظر، فيرمقني بنظرة حادة تُخَلِّف الدمع في عيناي، إلا أنني لا زلت اضحك. فيسمح لي بنظرة متمعنة فيه بعد أن يبدل ملابسه الصفراء والبرتقالية، ومن ثم يستقر في رداءه الأحمر المهيب. هو يودعني عند المغيب وقد ازداد ألقا وقربا ليتركني مع السؤال: "لم كل الأشياء تبدو أجمل وأقرب عند المغيب؟"

هو يَعِدُني بلقاء قريب ووعد بأن يرسل من يؤنسني حتى يعود.

السحابات تعود إلا أن فراءها قد اتخذ لونا رماديا، يبدو أنه من عناء اليوم. ها هو قد أتى خليفة نجم الصباح الذي وعدني إياه. هو يشبهه قليلا، إلا أنه يبتسم دائما. هو طفل شقي يكره الملل. في كل ليلة يطل عليّ وقد ارتدى ماسكا جديدا ويسألني: "من أنا؟" فأجيبه وبعد أن اتفحصه جيدا وهو يخفي جزءا منه في الظلام "إنه أنت". يضحك وتضحك النجمات من حوله، وتلمع ببريق أخاذ. نقضي ليلتنا جميعا بين سهر وسمر جميل.

إنهم يعلمون كل اسراري، حتى أنني قد اخبرتهم عنه. هو محض طائش لم تطحنه الرحايا جيدا بعد. كلما راودته الحياة أن يكون معي، آثر أن يبقى في زنزانته المرتبة جيدا، حبيسا لذاته. إنه يضحكني حد البكاء كلما رأيته يبحث بمنتهى الجدية عن مخرج من محبسه. هو لا يدرك أنه حبيس نفسه وان سجانه ليس انا وإنما هو سجاني.

غرفته. محبسه.. التي اختارها بمحض إرادته غير عابيء إلا بأمانه المزعوم لا يغادرها إلا ألى محبس آخر. فيبكي حظه العاثر بعد أن تطأ قدماه المحبس الجديد.

أنا .. انا تابعه المسكين. قد يسمح لي أن أطل من أشباه مراياته من حين لآخر. تختلف لقاءاتنا.. ينظر لي أحيانا وكأنه يراني لأول مرة، فيتعجب بنظرة اندهاشة تعجبني في كل مرة أراه يمحلق الي بها. أحيانا ينظر الي ولا يراني. . لا أدري

هل يدعي عدم الرؤية أم أنه يستبد به العمى أحيانا.

يستقبلني في أحيان اخرى بحفاوة ترحاب غير متوقعة، من ثم يدور بيننا حوار ينضح بالإيجابية، وأودعه وهو مليء بالأمل والعهود التي يمطرني بها في وداع على أمل لقاء في الغد.. الغد الذي طال انتظاره ولا يجيء. هو ملك الوعود الزائفة. إلا أنني لا زلت أصدقه في كل مرة.. لعلها رغبتي انا في أن يفي بوعوده ما تمنحني القدرة على تصديقه. أو لعلي لا أملك سوى انتظاره في كل مرة يفتح الباب بيننا ويأذن بحوار.

لا وجود لي من دونه.. أعلم .. هذا ما يدفعني للانتظار. مهما طال الوقت فأنا أملك من الصبر واليقين أن الفرصة آتية لا محالة. وأن يومي السعيد قادم. هكذا كنت أحدث نفسي طوال اعوامه ال.. يبدو أنني قد فقدت الرغبة في العد منذ بعض الوقت.

هو حبيس تلك الغرفة المتسعة ويملك حق الخروج منها، إلا أنه لم يجيد الفرار بعد. وأنا .. من حُكِمَ عليه بالسجن في هذا المستطيل الذي لا يسع إلا جسدي بالكاد، إلا أن روحي لا يَحُدُها حد.

يقيني حدثني مرارا أن فرارجسدي ليلحق بروحي التي تقطن السماوات، شرطه الوحيد أن يفر هذا المسكين من محبسه. طال انتظاري وكفت السماء بما رحبت عن إبهاري في تأملاتي الساكنة. إما أن نلحق بها أو يموت.

* مصر: