خليل الغزاوي .. هوية وطن !!
تاريخ النشر : 2020-09-27 17:09

نعمان فيصل:

خليل الغزاوي يعود إلينا اليوم في ثوب بهيج عنوانه الإصرار على انتزاع الأمن والحياة الرغيدة من خلال قوة الإرادة والصبر. هذه القيم التي ميزت أهالي غزة في تاريخها الطويل، فخليل الغزاوي، وبرغم غيابه إلا أنه حاضر في تفاصيل الغزيين، وسيظل عنواناً كبيراً ليس لعائلة الشوا وحسب، بل لغزة العزة والكرامة.

تلطف الصديق/ خلدون عبد القادر أبو سليم بإهدائي رواية: (اختفاء خليل الغزاوي) تأليف خاله المهندس/ سمير الشوا، المقيم في لندن، والتي صدرت حديثاً، فلهما مني جزيل الشكر على هذه الهدية القيّمة، وإني أعتبر هذه الرواية التاريخية (اختفاء خليل الغزاوي) عملاً من أعمال الوفاء تجاه مدينة غزة، والرواية تشبه في عنوانها ومضمونها إلى حد كبير رواية الأديب الفلسطيني جبرا خليل جبرا: (البحث عن وليد مسعود) التي صدرت عام 1978م، والتي تعد اختزالاً لمسيرة جبرا الروائية، فترسم صورة للمثقف الفلسطيني في ضياعه ومعاناته ما بين الوطن والغربة، وسفره من فلسطين إلى بلدان عدة مثل: بريطانيا وأمريكا؛ لينتهي به المطاف في العراق، بينما تعيد رواية (اختفاء خليل الغزاوي) بين طياتها تشكيل شخصية الكاتب "سمير صالح راغب الشوا" في محيطه الأسري ووسطه وطبقته الاجتماعية، من خلال البحث عن الذات، والبحث عن الهوية والكينونة، والدفاع عن النسيج الاجتماعي في المجتمع الغزي، إذ يقف الكاتب على ربوة التذكر والحنين إلى زمن غزة الجميل في القرن العشرين، ويرصد مجموعة من القيم الاجتماعية والثقافية السائدة، يتأمل ويراجع مشوار الحياة بحلوها ومرها, ويشرح معاناة غزة، وما تعرضت له من تهجير قسري إليها، ومن احتلال إحلالي، عندما اجتمعت عليها الصهيونية العالمية بما تملك من المال والسلطة والخبث في النصف الأول من القرن العشرين من خلال البحث عن خليل الغزاوي، هذا البطل الكبير، بطل الشجاعية الذي شكل عالمه وشخصيته ووعيه, نتيجة لتفاعل بيئة العائلة وميراثها، ونسيجها المميز في العيش المشترك.

هذه رواية تاريخية أشبه بسلسلة من الوثائق التاريخية التي تحكي وتتبع مسيرة عائلة غزية مهمة وهي عائلة الشوا، وامتداداتها بين الماضي والحاضر، والرواية مكونة من اثني عشر فصلاً، كما يدل عليه الفهرس، الذي أثبته الكاتب سمير الشوا في آخر الرواية، تدور حول أفراد وأصول عائلة السبيعي (الشوا) كما سماها الكاتب، مؤكداً أن وقائعها التاريخية حقيقية، ومعترفاً بأن معظم أسماء أبطال هذه الرواية من نسج الخيال، وأنه إذا ما وجد أي شبه بين شخصياتها أو أسمائهم أو بين أناس حقيقيين فيكون صدفة محضة، وبدون أي قصد من المؤلف.

الدلالة الرمزية لاسم الرواية (اختفاء خليل الغزاوي) نسبة إلى خليل جد الكاتب سمير الشوا، والذي يعتبر أيضاً بأنه الجد المؤسس لعائلة الشوا، وإليه يرجع نسب معظم فروع هذه العائلة في غزة، الذي جاء إليها بقطيع كبير من الأغنام، وسكن في حي الشجاعية، حتى أصبح أحد كبار ملاك الأراضي في فلسطين، وتعتبر عائلة الشوا إحدى العائلات الستة في فلسطين التي تملك أكثر مساحة من الأرض الزراعية في فلسطين، وكان سعيد محمد الشوا (رئيس بلدية غزة، ونائب رئيس المجلس الإسلامي الأعلى في فلسطين) يملك خمسين ألف دونم من الأراضي الزراعية، ومن الملاحظ أن عائلة الشوا قدمت خمسة رؤساء لبلدية غزة منذ تأسيس المجالس البلدية في مختلف العصور، وكان أول رئيس بلدية من عائلة الشوا هو "علي خليل الشوا".

وهكذا، فخليل الغزاوي، كما نتصور، هو الجد الأكبر لعائلة السبيعي/ (الشوا)، والذي أصبح رمزاً لكل فلسطيني من غزة غادر وطنه طوعاً أو كرهاً، وحرمته أحداث النكبات المتتالية التي مرت على الشعب الفلسطيني، ويمثل هؤلاء جميعاً خليل الغزاوي في غربته ونجاحاته وطموحاته، وتمضي الرواية في تتبع خليل (الحفيد) الذي ظهر في أواخر العهد التركي، وتجند مع الجيش العثماني المقاتل، حتى استقر به المقام في لندن، مع شريكه حنا اللاذقاني، وتمضي بهم الأيام في لندن، فعلا نجمهما، واشتريا مصنع نسيج، وباخرة لنقل الأقمشة والمنسوجات، وسميا الباخرة (الشجاعية)، ويختفي خليل هو وشريكه اللاذقاني بعد غرق الباخرة (الشجاعية) قرب جزيرة مالطة بفعل قذيفة طوربيد أطلقتها البحرية الألمانية أثناء الحرب، ثم نأتي إلى استنساخ آخر لخليل في شخص ابنه (شارلي خليل) الذي ولد في لندن من أمه الإنجليزية (ساندرا)، وتدرب في كلية (ساندهيرست) أرقى الكليات الحربية الملكية المشهورة، والتي تعلم فيها أبناء العائلات الرفيعة من بينهم ملك الأردن الراحل الملك حسين بن طلال، وملك الأردن الحالي الملك عبد الله بن الحسين، وولي العهد الكويتي الراحل سعد العبد الله الصباح، وتخصص خليل في الخدمات اللوجستية، وعلا شأنه، واستطاع في النهاية أن يصل إلى بلده غزة وأهله وعشيرته في الشجاعية، ولكن شارلي خليل هذا اختفى أيضاً في حادث تعرضت له سيارته وهو عائد من مهمته اللوجستية في وادي اللطرون نتيجة قذيفة أطلقها الثوار، لكنه لم يمت، فأين ذهب؟

وهكذا، تتشابك أحداث الراوية، وتغزل خيوطها وحبكتها، وكأن الكاتب يريد أن يقول: إن خليل الغزاوي الذي اختفى، وحفيده شارلي خليل، تجدد على شكل أفراد آخرين في العائلة، وأن خليل رمز للعائلة التي امتازت بصفات عروبية أصيلة من كرم ووفاء وحب للمغامرة ونجاح في الرزق وهجرة إلى كافة الأقطار، وعودة إلى غزة، وإلى مثل تلك الصفات التي اشتهر بها خليل الجد الأعلى، وتمثلت أيضاً في أميرة التي اجتمعت فيها هذه الصفات، وهذا هو سر خلود هؤلاء الأجداد المختفين، وهذه الشيم والصفات والأخلاق وراثية في الأنساب، تظهر في الفروع، وتتجدد، ولا تختفي.

جاء في إحدى الحوارات بين سعيد/ (سمير كاتب الرواية) وأبيه عادل يقول الأب: (أما أنت يا سعيد.. اسمك في مخيلتي هو خليل، أنت خليل السبيعي.. أنت خليل الغزاوي)، ويريد الراوي أن يوحي من هذه المناقشة بين الأب والابن أن جد العائلة خليل الذي اختفى بعد غرق الباخرة تكرر في أحفاده، ومنهم سعيد (وهو الكاتب سمير) فهو إذن خليل الغزاوي، أو هو نسخة طبق الأصل، والحفيد مكرر، ولهذا أنجبت أميرة طفلها الأخير، وسمته خليل، ووزعت أربعة خراف عقيقة على أهل الشجاعية، لكن خليل هذا الذي أصر والده (عادل) أن يسميه بهذا الاسم إحياء لذكرى جدهم الأكبر قد توفي بعد ثلاث أشهر من ولادته، لكن الوالدة المكلومة أميرة علقت على وفاته: (الطفل القادم سيعيش بإذن الله !!).

لقب السبيعي: ورد لقب السبيعي كثيراً على أسماء أشخاص الرواية، إذ كان يطلق على عائلة الشوا آل (السبعي أو السبيعي) عندما وصلوا غزة، وإن اختلف المؤرخون في سبب تسميتهم بالسبيعي، ومنهم مَن يرى أن عائلة الشوا تعود إلى اسم (العقيلي) نسبة إلى عقيل بن أبي طالب، بينما الشائع في غزة أن سبب التسمية بالشوا، جاء من صنعة شواء اللحم، كون أحد أجداد هذه العائلة اشتغل بتلك الصنعة، وهي من العائلات العريقة في مدينة غزة عموماً وحي الشجاعية خاصة.

حي الشجاعية: كان لحيّ الشجاعية - أحد أحياء مدينة غزة القديمة - النصيب الأوفى في الرواية في رسم لوحة اجتماعية وجهادية نادرة، وهو الحي الذي استقر به الأجداد الأوائل لعائلة الشوا في غزة في ظل مناخ حميم وبيئة متميزة، سكانها خليط من كل الثقافات، وتحمل أطيافاً متعددة من الأسماء التي انصهرت في مجتمع واحد، وكانت مشاعر الناس ما تزال حية، وكان للأشياء معانيها الحقيقية وأحجامها الحقيقية!! وحين يقول المرء: إن الشجاعية عنوان واسع وموطن للنضال والصمود، إنما يعني ذلك تماماً، فهي البوابة الشرقية للمدينة وتعلوها تلة المنطار حارسة غزة، وكما يقول العسكريون: (خط الدفاع الأول).

وفي هذا السياق لا بدَّ من الإشارة إلى بعض عادات أهل الشجاعية المشهورة التي وردت في الرواية ومنها: تسمية الأبناء على اسم الوالد من خلال وصية خليل لأبنائه أن يحافظوا على أرض أبيهم وتراث أمهم وأن يطلقوا اسم خليل على ابنهم الأول أو الثاني، ولهذا تكرر اسم خليل في هذا الفرع من العائلة، فكما تتوارث العائلة العادات تتوارث الأسماء أيضاً، وقد استعمل الراوي التناصّ في الرواية، حيث كثرت الأمثال الشعبية والأقوال والحكم المأثورة توضيحاً لهذه العادات الاجتماعية المتوارثة بين الأجيال حتى يومنا هذا. وهذه الخاصية تظهر جلية بين أبناء الشعب الفلسطيني من جيل لآخر، حيث يسعفون ذاكرتهم بهذه العادات والأمثال، ويسترجعون تاريخهم.

ومن هذه العادات الاجتماعية المتوارثة نذكر على سبيل المثال لا الحصر: ظاهرة الديوان/ المجلس، فكان المجلس ساحة لاجتماع العائلة والجيران والأصدقاء، وتقدم فيه القهوة العربية والنارجيلة (الشيشة)، وسجائر التتن (التمباك)، وتوزيع لحم الخروف الأضحية، وثمار البرتقال من البيارة في موسم الحمضيات، وأطباق الأكلات الشعبية على الجيران، وإعداد الطعام لأهل المتوفى طيلة فترة العزاء، وإحياء ذكرى الأربعين للمتوفى، والعيدية للأرحام في الأعياد، والطهور عند الذكور، حيث تقام الأفراح والولائم، حيث يلبس الطفل لباساً خاصاً، واستدعاء فرقة فدعوس التي اشتهرت لإحياء الأعراس في غزة وتدق على الطبول والدفوف، والمغنيين والموسيقيين لإقامة سهرة حفل الزواج، واللباس العربي (الكوفية والعقال).

في هذه الرواية يستعيد الكاتب سمير الشوا، والذي رمز لنفسه باسم مستعار هو (سعيد)، ذكرياته عن والده صاحب السيرة العطرة المرحوم (صالح راغب صالح خليل الشوا)، الرجل العصامي، والذي رمز إليه في الرواية باسم مستعار أيضاً هو (عادل صادق السبيعي)، هذا الرجل الذي اختطف القدر والده الشيخ راغب، والذي أطلق عليه في روايته اسم (الشيخ الصادق)، فأصبح صالح بعد وفاة والده مسؤولاً عن عائلته، فاعتمد على نفسه في جو من الكفاح والتعب لا مثيل له، حتى أصبح الوكيل الحصري لسيارات (هامبر، وهيلمان) الإنجليزية، وكذلك لمعدات حراثة الأراضي الزراعية ومضخات المياه، ونجح في تأسيس شركة للتجارة في مواد البناء والمقاولات، وبنى مخبزاً في غزة، وآخر في رفح لتزويد الجيش المصري - زمن الإدارة المصرية لقطاع غزة - بالخبز، حتى أصبح من الأثرياء، ويُشار إليه بالبنان في التدين والأخلاق ومساعدة المحتاجين، ولا أدل على ذلك من النصائح التي كان يسديها لابنه سعيد في الرواية قوله: (اعمل خير وارميه في البحر).

وكان والد الكاتب الحاج صالح الشوا/ "عادل صادق السبيعي" أول فرد من عائلة الشوا يتملك في حي الرمال، إذ كان معظم أفراد عائلة الشوا يسكنون حي الشجاعية، فاشترى صالح/ عادل في الثلاثينيات من القرن العشرين أربع دونمات في حي الرمال، وكان وقد ذكر الكاتب في روايته هذا الأمر عندما رسم صورة المنزل الذي شيّده المقاول الغزي "أبو عودة البنّا" على هذه الأرض بحي الرمال، وأنه يتوسط قطعة أرض كبيرة مساحتها أربعة دونمات، ويتكون من خمس غرف نوم، وقد بُني على طراز معماري جميل، ما طُبع في ذهن القارئ وكأنه تحفة معمارية في ارتقائه وشموخه، تحيط به حديقة فسيحة مزينة بورد الفل والياسمين، وتشتبك بزهورها المتفتحة التي كانت بمثابة الومضات اللامعة التي لفتت أنظار الحاضرين نحو هذا المنزل الجميل.

ونجد الكاتب يصرح باسم عمه الشيخ الأزهري في الرواية، وهو (الشيخ عارف صالح خليل الشوا)، الذي مات في ريعان شبابه، بينما نجد الكاتب يخفي اسم زوج خالة سعيد البصير بقلبه (الشيخ سعيد هاشم خليل صالح الشوا)، والذي كان شيخاً أزهرياً، عمل في المحاماة، ومن ثم قاضياً شرعياً.

يعبر الكاتب في كل فصل من فصول الرواية عن حنينه للذكريات الجميلة التي عاشها في صباه في مدينة غزة، فيحكي مثلاً عن أجمل الأوقات التي كان يقضيها في فصل الصيف تحت (العريشة) في أرض الشوا على شاطئ بحر غزة في منطقة (البلاخية) ميناء غزة القديم برفقة أقاربه وأصدقائه للاستجمام، والصيد من خيراته ما لذَّ وطاب، حيث كان عالم أهل غزة لا يتعدى هذا البحر.

وتحدث الكاتب في روايته عن الآثار الرومانية الباقية في البلاخية شمالي غزة، حيث كانت المنطقة ميناء، وقد اندثرت هذه الآثار، ودفنتها الرمال، وفي الرواية سرد لذكريات أبو جميل (ساكن الكوخ في البلاخية) عن شبابه عندما كان يبحر بالقارب بعيداً إلى شواطئ قبرص، حيث يتبادل بضائعه من زيت الزيتون والبرتقال والبلح في ميناء (فاماغوستا) ببضائع قبرصية مثل: العسل والخروب، وكان من ضمن هذه البضائع أيضاً الحمير القبرصية والمفضلة لدى أهل غزة، حيث أنها تتحمل الأثقال، وتفوق قوة حمير غزة الذي تشتهر به قبرص.

ويروي الكاتب أيضاً بعضاً من ذكرياته مع أسرته في الفصل الثامن بعنوان: (المدينة المنورة)، خاصة قصة سفره مع أسرته لأداء فريضة الحج؛ إلا أن والده استمر هناك بعدما أقنعه صديقه اللبناني بالعمل في مجال المقاولات لمدة سبع سنوات، فجمع ثروة كبيرة، وعاد بعدها إلى غزة، ليزرع بيارته على شاطئ بحر غزة، ويحكي لنا سعيد/ (سمير) عن تجربته الأولى التي كان يحلم بتحقيقها دوماً، وهي ركوب الطائرة، وأداء فريضة الحج.

ونرى الكاتب سمير الشوا يرمز في روايته إلى والدته باسم (أميرة)، تلك السيدة الفاضلة (محاسن كامل الشوا)، التي ساندت زوجها في كل الأوقات، فكانت نعم الأم، ونعم الزوجة، إذ اشتهرت بالكرم وحب الجيران وتبادل الزيارات معهم، وتطعمهم من أصناف الحلويات والمآكل الغزاوية، كما تحلت أميرة أيضاً بالثقافة، وكانت تحب الموسيقى والفرح، وكان يطلق على بيتها (دارة أميرة الثقافية) كما ذكر الكاتب في روايته عندما قال: (كان محيط أسرة أميرة هو القراءة، ومحيط الحارة الشعر والموسيقى، فتصبح القراءة والكتابة هي كل ما تغرسه الأم في عقول أطفالها، وكانت أميرة تؤمن بتلك المقولة التي لا يعرف أحد مصدرها: "إذا كانت الأم قارئة.. فيصبح الأبناء أدباء!!").

وترسم الرواية لوحة غزية رائعة من التضامن الحقيقي والأصيل بين أبناء غزة المواطنين وإخوانهم اللاجئين بعد سقوط قراهم ومدنهم تحت قبضة العصابات الصهيونية في الحدث الزلزالي الأكبر الذي هزَّ فلسطين في عام النكبة (1948)، وتدفق بسببه المهاجرون إلى غزة، إذ كان هؤلاء المهاجرون لا يملكون من متاع الدنيا إلا الثياب التي يلبسونها، والقليل من الجنيهات التي كانت في جيوبهم، وكانوا كغيرهم من الفلسطينيين، يتخبطون، ولا يدرون شيئاً عن مصيرهم، وفي ظل هذه الظروف العصيبة استقبل أهالي غزة بالحب والترحاب إخوانهم اللاجئين، وأشار الكاتب أن أسرته كانت من بين العائلات الغزية التي استضافت في بيتها أربع عائلات فلسطينية مهاجرة، من بينهم عائلة مسيحية من مدينة حيفا، والذي تجسد في الراوية بعائلة كارلو المهاجر، وعائلتين من المجدل، وعائلة أخرى من بيت دجن، وقد مكثوا في ضيافتهم أربع سنوات.

كما أشار الكاتب في روايته إلى خطبة الشيخ مصطفى العنيزي عندما دعا جميع المصلين من أهالي غزة لاستقبال المهاجرين ورعايتهم وتقديم المعونة ولعائلاتهم، وكان يذكّر المصلين بهجرة الرسول عليه الصلاة والسلام عندما هاجر من مكة إلى المدينة، فاستقبلته جموع أهل المدينة، وفتحوا له ولأصحابه بيوتهم، فسماهم النبي الكريم بالأنصار.

وكان الكاتب يتتبع كل عائلة من حيث ذكر اسم الزوج والزوجة وهواياتهم، ما يدلل على رقي هذا المجتمع، كما يذكر الكاتب عادة اجتماعية محببة، تجمع نساء الحي من الأهل والجيران مع بعضهن البعض يوم الخميس من كل أسبوع، وهو ما كان يسمى (الاستقبال).

وترى في الرواية مشاركة أهل غزة في الحضارة، ومدى ما قدموه من مدنية ومعرفة من خلال تفاعلهم الدؤوب مع الأدب والثقافة والموسيقى، والنغم الجميل الراقي المؤثر، كونها ترقي النفس، وتبعث فيها الحياة والنشاط والسرور، وتطلّعهم لكل ما هو جديد من خلال حرص جدة الكاتب (خيرية) على اقتناء جهاز (الجرامافون)، الذي يسميه البعض الحاكي عام 1923م، وهو جهاز نادر لم يوجد مثيل له في غزة وقتئذ.

وتجد في الرواية معاني اجتماعية ثرّة جديرة بالوقوف عندها، ومنها احترام الأديان السماوية، وتقديس رجال الدين، الذين يضربون الأمثلة في حفظ الكرامة والجهر بكلمة الحق، ويكونون على صلة بالحياة ودراية بالمجتمع، والاعتراف بفضلهم على الناس، ومكانتهم الكبيرة منهم، وأثرهم القوي في حياتهم، واختلاطهم مع بعضهم في الإقامة والعمل ومقاومة الأعداء، واتضح ذلك جلياً عندما قالت أميرة لابنها سعيد/ (الكاتب سمير): (يا سعيد يجب علينا الإيمان بأن كل الأديان صحيحة؛ لأنها صحيحة في قلوب المؤمنين بها)، وتبرهن الرواية على أن غزة كانت في كل تاريخها بعيدة عن التعصب الديني، بل من أحشائها خرجت مدارس التعايش الأصيل - وهو احترام حق الآخر في الاختلاف - وقدمت للإنسانية درساً بليغاً في الحوار والتسامح والتعددية.

ومَن كان يزور مدن فلسطين يرى ويلاحظ تعانق الهلال مع الصليب، ويسمع امتزاج أصوات المؤذنين مع قرع أجراس الكنائس في جو أخوي فريد من نوعه، قلَّ نظيره في العالم.

لفت الكاتب في روايته إلى بعض المقاهي الشهيرة في مدينة غزة ومنها: (مقهى سمارة، ومقهى الانشراح أو القهوة المعلقة "كما هو شائع"، ومقهى الجمهورية)، وأنها كانت قاعات اجتماع يلتقي فيها رجال على اختلاف طبقاتهم وتفاوت معارفهم ومداركهم، حيث يزخر تاريخ الأدب العربي بقصص عن اجتماعات الأدباء وأصحاب الفكر في مقاهٍ لمعت أسماؤها، وبرزت في بلدان عدة، وأخبرنا الكاتب عن رواد تلك المقاهي من أمثال: (الشاعر معين بسيسو، ومحمد زاهر، وياسر الشوا، وصلاح الحسيني، ومعين البدري)، وغيرهم يجتمعون فيها للتباحث في عدد من الأمور والقضايا؛ إذ كان الحديث يدور حول أسباب النكبة، ودور التعليم في محو الأمية، وغياب الدراسة الجامعية عن فلسطين طوال الحكم العثماني، وخلال فترة الانتداب البريطاني، وغيرها من الموضوعات، وهناك كان الشاعر معين بسيسو يشرح لهم الشيوعية بمعناها الحقيقي، وتتلخص بأنها ترفض كل سلطة تهيمن على الناس وتسلبهم كرامتهم باسم الدين. واشتهر هؤلاء المثقفون - على اختلاف مشاربهم وأيديولوجياتهم - بجرأتهم في طرح القضايا المصيرية التي تشغل بال المجتمع الغزي، وعدم سكوتهم على الضيم، وهو شعور عميق أصيل في المجتمع.

ونجد الكاتب في روايته التاريخية يلمح، بالإشارة أو ما بين السطور، حول صراع العائلات ونفوذها فيما يتعلق بالتنافس على (رئاسة البلدية) في مدينة غزة عندما قال: (عندما كان شقيق جدك كمال رئيساً للبلدية، وكان من ضمن صلاحياته اختيار أربعة أو خمسة شباب في كل عام للدراسة في الأزهر الشريف، وبالطبع كان يرشح واحداً من أفراد عائلته، والباقي من العائلات الأخرى.. بعد وفاة رئيس البلدية وانتخاب رئيس جديد من عائلة أخرى أعتقد منذ ذلك التاريخ لم يتمكن أي طالب من عائلتنا الالتحاق بالأزهر... وكان الشيخ حسن السبيعي "ابن العمة رسمية" هو آخر شيخ من أفراد العائلة يدرس بالأزهر).

ونرى الكاتب في موضع آخر يلمح حول موضوع (منتزه البلدية) الذي كان مثار جدل بين عائلتي الحسيني والشوا عندما قال: (عندما قرر المجلس البلدي إنشاء حديقة عامة في شمال شارع عمر المختار من جهة الصبرة، قام المجلس بتكليف السيد يوسف – وهو أحد أقرباء عادل - بالإشراف على هذا المشروع الجديد ومراقبة عمل المقاول الذي تمت ترسية العطاء عليه)، ولم يذكر أية تفاصيل أخرى عن الأرض التي أقيم عليها منتزه البلدية، ومَن كان يملكها؟ ومَن تبرع بها لإقامة منتزه بلدي عام أضاف إلى حي الرمال الجديد بهاءً ونضرة، وأصبح متنفساً للناس في الأعياد والمناسبات أقرب من شاطئ البحر.

حاول الكاتب أن يحصر تراث عائلة الشوا ابتداء من مؤسسها وجدها الأول خليل السبيعي الذي وفد من الحجاز، وسماه قحطان مع أخيه الزبير في قافلة من الأغنام والجمال باعها في غزة، واشترى بدلها أحصنة أصيلة، وبعد أن تعرف على الضابط التركي المسؤول تزوج ابنته واشتهر أمره.

من الملاحظ أن الكاتب لم يتطرق لأفراد شجرة هذه العائلة الكريمة إلى ذكر الحاج سعيد الشوا رئيس بلدية غزة في أواخر العهد العثماني، وأولاده، قد يكون أراد أن يحصر الرواية على الفرع الذي ينتمي إليه هو دون ذكر باقي الفروع سيما، وأن بعض هؤلاء يحتاج إلى رواية مستقلة، وهكذا، فإن الرواية تختصر أسماء كثيرة فاعلة في هذه العائلة المتشعبة، ويظهر أن المجال قصير أمام الكاتب، وأنه ينوي الكتابة في الرموز المتعاقبة لهذه العائلة الأصيلة.

هذه الرواية التاريخية حافلة بالتواريخ والحوادث والأشخاص التي مرت على مدينة غزة وقضائها ابتداء من (السفربرلك) عند بداية الحرب العالمية الأولى، وحتى الستينيات من القرن العشرين، وقد يكون هذا هو السر الذي جعل الكاتب أن يحصر أفراد هذه العائلة الذين ظهروا خلال هذه الدائرة الزمنية التي حددها لروايته.

استعمل الكاتب أساليب التناصّ، واقتبس من نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية والأمثال العامة والحكم لفلاسفة عديدين ما يساعده على إسقاط الماضي على الحاضر.

واستعمل الكاتب أسلوباً مبسطاً للحوار بمعناه العام، وليس بمعناه الفني في الرواية، ومال إلى أسلوب السرد الذي يناسب الرواية التاريخية والهادفة إلى حل رموز وطلاسم العائلة في تاريخها الطويل.

واستعمل الكاتب في فصل أو عنوان واحد فقط هو: (شاطئ البلاخية) أسلوب الديالوج، أو الحديث الذاتي مع النفس، ولكنه لم يستعمله في باقي فصول الرواية.

لم يتتبع الكاتب أسلوب الصراع والعقدة والحل كما هو متبع عند الرواة والشعراء والمسرحيين، ولم يتتبع أسلوب التناقض المرير والمقابلات والطباقات الذي يضفي هالة على النصوص المسرحية والشعرية والخواطر والروايات، وعلى سبيل المثال عندما وصف الشاعر المتنبي الحُمّى استعمل هذا الأسلوب فقال:

بذلتُ لها المطارفَ والحشايا فعافتها وباتَت في عظامي

أبنت الدهر!؟ عندي كل بنت فكيف وصلت أنت من الزحام؟

نبذة عن كاتب الرواية:

الكاتب سمير صالح الشوا من مواليد مدينة غزة عام 1943م، حصل على البكالوريوس في الهندسة في جامعة لندن، وأسس دار الهاني للكتب والنشر في لندن، وهي أول دار نشر فلسطينية في بريطانيا تعنى بالقضايا الوطنية الفلسطينية، والتي جمعته بالعديد من المفكرين العرب والفلسطينيين ومنهم: إميل حبيبي، وتأثر بروايته الشهيرة: (الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس، المتشائل)، وناصر الدين النشاشيبي، الذي كان من أوائل الكتّاب الذين ساعدوا الشوا في بداية مشواره الثقافي عند تأسيس دار الهاني للكتب والنشر في لندن، وإدوارد سعيد، وناجي العلي، وأحمد دحبور، وغيرهم، وقد صدر للكاتب سمير الشوا كتاب: غزة .. إلى أين؟ في العام 2018.

يؤمن الكاتب الشوا بأن المواطن الصالح والمميز هو من بإمكانه تقديم الأفضل لمجتمعه ووطنه والعمل من ضمن المجموعة لتحقيق أهدافه، بصرف النظر عن أصله وفصله، أو خلفيته العائلية، وكأنه يريد أن يستنسخ أجداد عائلته في حبهم للتنقل والترحال والصعود إلى القمة أينما كانوا، وكأنه يريد تكرار بطولات جده خليل الذي اختفى، وشارلي خليل ابن البريطانية الذي عاد ثم اختفى، وستجد تلك الرموز والمعاني في روايته القادمة: (بين غزة والكويت)، ولا ندري: هل سيذكر في روايات أخرى أشخاصاً آخرين من عائلته؟ أم سيكتفي بهاتين الروايتين؟ نعتقد أنه في نيته أن يذكر ذلك، فالفلسطيني ذاكرته لا تتغير في السفر والإقامة.

وفي الختام لا يسعني إلا أن أشكر الكاتب سمير الشوا على هذه الرواية التاريخية الرائعة، وإلى روايات مماثلة إن شاء الله.

الآراء المطروحة تعبر عن رأي كاتبها وليس بالضرورة أنها تعبر عن الموقف الرسمي لـ "ريال ميديا"