حبٌ وحربٌ خلفَ القُضبان
تاريخ النشر : 2020-09-22 01:58

دعاء الجيوسي:

( ١ )صمود في زمن البرزخ

في الزمنِ البرزخي بين الحياة والعدم دار ما سأرويه: لكم كُنا أربع فتيات وطّنا أنفُسنا على أن ما نُريده أَجَلَ من أن يُوصف ، أصعب من أن يتحقق وأقدس من أن يُطلَب ، كنا نُجمع على أن ما نحلُم به لا يأتي إلا حين نغيب و لا يحضُر إلا حين ننمحي....كنا نقول نريد الريح في عباءة والبحر في زجاجة.

لم تُنجٍنا الفلسفة ولا العرفان من قبضة الزمن بماضيه الأليم وحزنه المقيم فأتفقنا في حينه على أن ندعَ ما خارج زمننا البرزخي لأهله وأن نرضى من واقعنا بما تحقق.

إحدانا كانت فلاحة من قضاء رام الله إلتزامها بالقرار الجماعي كان حديدياً أغلقت قلبها وحاصرت عقلها بأكداس من الكتب العتيقة كنا عندما نسألها فيما تقرأين يا صمود ؟ تضحك فترتسم غمازتي وجنتيها كأخدود قهر عميق وتقول : أقرأ لإبن حزم الاندلسي ، وتارة أخرى تراها تنتقل من كتاب لآخر تتقصى أخبار ليلى العفيفة وبراقِها ، تبحر في علوم المُتصوفة وشطحات عشقهم.

( ٢ ) العِشقُ يتسلل للزنزانة

أوائل العام 2010 كانت رواية قواعد العشق الأربعون لا تزال في مهدها لم تصل عالمنا بعد ولكن بدا أن في زنزانتنا بسجن الدامون توأم للرواية يشقُ طريقه للحياة وكأن جلال وشمس قررا أخيراً أن يتقاسما مناصفةً قيودَ الدامون و ريمون الذي كان الطرف الثاني للرواية يسكن أحد زنزاينه منذ سبعة أعوام يأكُل الكتب وتأكُله سنوات السجن ، وقبل أن يغفو ليلاً على أوجاعه يتذكر أنه شاهد على الشاشة ذات ليلة فتاة تُنفُذ عملية طعنٍ وعَلِمَ فيما بعد أنها تمنطقت بقيد غليظ وباتت رفيقة أسر...ذات صباح وبعد أن أرَقَهُ السهر خرج جميل عنكوش لساحة السجن وقد تحول الشاب الجَلِد بقامته الفارعة إلى طائر من فصيلة الطَنون يشُدُه رحيق الزهر ليقطع آلاف الكيلومترات خلفه ، و لكن في السجن لا كيلو ولا حتى مليمتر واحد يمكنك أن تقطعهُ خلف من أو ما تحب ، هنا إما أن تقطعَ الزمن والمسافة بحثاً وإزعاجاً للقادمين الجُدد بالأسئلة وإما أن يقطَعكَ الزمن بنصله فتقبع في منتصف الطريق بين حيرة السؤال ولهفة إنتظار الإجابة كالمُنبَتِ الذي لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى...بعد مشقة تناهى إلى مسامع جميل أن الفدائية التي رأى صورها ذات ليلة وهي تنفذ عملية على حاجز قلنديا أواخر أكتوبر عام 2009 إسمها صمود كراجة وعلم أنها تقبع في سجن الشارون....راسلها كثيراً دون جدوى فبدأ اليأس يعرِفَ الطريق إلى نفسه وهي التي إستعصت عليه لسنوات قبع على حزنه وكبح فوران مشاعره وإكتفى أن تظل صمود إسمٌ يٌعَبِرُ عن حاله ورفيقة قيد قلبها أبعد من طيف الحرية....

منتصف العام 2010 إنتقلت صمود إلى سجن الدامون وهي على موقفها لا تفكير فيما هو خارج حياة البرزخ، أسوار شاهقة من الكتب تعلو حول الدماغ فلسفة وعرفان وإن كان للحب مُتسعٌ فهو صوفي يتحد فيه العاشق بمعشوقه تَبَتُلاً لا رجس ، لا حيز لثقافة الأجساد فيه....ذات ليلة وصل صمود عبر إدارة السجن أكداس من الرسائل لم تَفُضَ خاتمها ألقتها بين يدي شريكات الغرفة وقالت تعالوا لنقرأ...بعد أن أتَم الجمع قراءة الرسالة الأولى إِنفرط عِقدَهُ وعادت كل أسيرة لما كانت فيه ضحكوا بصخب وقالوا لصمود يبدو أن في ريمون من يشاركك شطحات التصوف...إقرأي ما كتب جميل لك وصدق من قال إن الطيور على أشكالها تقع ها قد وجد لك السجن طيراً طناناً مثلك يُسافر خلف الرحيق ويَتَبَتلُ في حب من لا يعرف...توالت الأيام وجميل يُراسل صمود ما إستطاع وهي كذلك وما زادتها رسائله إلا إبحارا في تصوفها وسبراً لأغوار الحجب التي لا تُكْشَف....

( ٣ ) علي طريقِ الحُلُم

صبيحة الحادي عشر من أكتوبر عام ألفين وأحد عشر كانت صمود و أربع رفيقات في زنزانتهن بسجن الدامون يخُضن إضراباً عن الطعام لليوم التاسع عشر على التوالي تضامناً مع رفاقهم المُحتَجزين في زنازين العزل الإنفرادي ولكل واحدة منهن طقسها الخاص في الإضراب فواحدة لا تَفتُر تُحَدِقُ في صورة قديمة لوالدتها وثانية كلما أكلها الجوع تبكي زوجها وحبيبها وتتذكر أنه إِستُشْهدَ جائعاً فيطفئ الحزن حَرَ الجوع...ثالثة كانت قبل السجن رياضية حاذقة تقف قُبالة المرآة تُراقب جسدها الذاوي وتقسم أنها فور فك الإضراب ستعود لممارسة الرياضة وتعويض ما خسره قدها المياس أما صمود فكانت تَجُوع جوعين جوع المضرب عن الطعام وجوع الساكن في القلب وشريك الإضراب.....سويعات مرت في ذاك الصباح الثقيل قبل أن تتعالى الأصوات من الزنازين المجاورة واحدة من الأسيرات تؤكد أن المقاومة أبرمت صفقة لمبادلة الجندي المأسور لديها جلعاد شاليط بعدد كبير من الأسرى يذهب الصوت بعيداً تَخنُقُهُ جَلَبَة الأسيرات في الزنازين وإستنفار الإدارة..ثم يعلو مجدداً كل الأسيرات سوف يغادرن السجن كأحد بنود الصفقة ظل الصوت يأتي متقطعاً حالة شدٍ غير مسبوقة باتت كل نزيلات الغرفة كالقوس وَتّرَهُ أحدهم وَحَفَزُهُ كي ينطلق ظلت أربعة أراوح على حالها لثمان وأربعين ساعة إنتهت بإعلان الإدارة أن كل الأسيرات في الزنزانة سيُغادرن للحرية بإستثناء الرياضية التي تحمل هوية الداخل المُحتل...

فَكَت الأسيرات إضرابهن ، جَمَعنْ ما أَبقْت لهُن سنوات السجن من ثياب ، أَبقينَ ما يَصلُح منها لمن تركنَ خلفهن وإنتظرنَ حتى نُقِلنَ ومعُهن صمود إلى سجن الشارون....هناك كانت الأسيرات مُرتَبِكات لا يُدركن ماذا يدور يتسائلن : هل سنعود لبيوتنا ؟ تُرى ألن نَضِل الطريق ؟ هل من يَحيُونَ في الخارج سينتظروننا ويدركوا أننا خارجات من جحيم قد لا يُغادرنا للأبد ؟ بات لكل سؤالها ولصمود سؤال مُحَدَد : جميل عنكوش هل سيخرج ضمن الصفقة ؟ هل سألمس يده أخيراً ؟ تُراني إن شاهدتُه بين المُحَرَرٍين هل سأعرفه؟!

( ٤ )حياة الأَنْصَاف

في زمن الحرية المجزوأة عاشت صمود تقبض على مشاعرها ، عَثٌ كثير حاول أن يعلو صورة جميل في ذهنها زواحف سمِجة تطفلت على حياتها محاولة قضم الحلم أو تشويه معالمه ، دارت الأرض حول نفسها حتى تعبت ليل طويل سطا على ما في النهار من ضوء لا قمرٌ أتى في مِيقاته و لا شمسٌ صدقت موعدها ، نصف حياة بنصف قلب عاشت صمود في قرية صفا ، تطاولت جدران السجن حول جميل عاش أيامه في صراع مع الذات غَلَبَت الأثرة حينا وتَغَلّبَ الإيثار أحيانا هاهي كل القلب ونصف العمر زهرة وحيدة تتقاذفها الأيام فعلام تظل مقيدة بالمجهول لِمّ لا تَنطلِق في الحياة كغيرها آن لي أن أُحَرِرَها من سجني وهي التي مَلَت السجون ولكن بمن يمكن أن ترتبط ومن يضمن لي ألا تُضْطَهَد في مجتمع بنيانه فوقية الرجل وأساسه غُبن المرأة لا وطهرها إن إرتبطت بغيري وتناهى إلى سمعي أنه أبكاها ذات يوم لأذبحنه وأعود للسجن مجرماً هذه المرة، إلا قرارة قلبي خُذوها إن شئتم ولكن لا أسمع مرة أن شوكة لامست قدمها وإلا فإني أهد الدنيا وأنا على ذلك قادر هذا وغيره من سوداوية أفكار العجز في السجون دارت في ذهن جميل حتى أُتيحَ له في مرة أن يكتب لصموده، ألقى في رسالته كل أفكاره بتشاؤمها ضعفها الإنساني وقلقها المنطقي...قرأت صمود ما كتبت يداه بعد ألف قبلة طبعتها على جسد الرسالة بكت بمرارة وقررت أن تكتب رسالة قدر لها أيضا أن تصل : ( أقسمتُ بالحب وألم القيد بالزهور على تلال صفا بروابي دير أبو مشعل وبكل ما إتفقتُ معك على قدسيته أني لن أتركك ولن أرضى بغيرك حبيباً حتى لو ظل حبي بتولياً إلى آخر العمر ) أَرفقت برسالتها رسماً تخيلياً لبيت الزوجية وأودعته يدا أمينة توصله لِلمُنتَظِر خلف القضبان.

( ٥ ) رقص في العتمة

أواسط العام ألفان وأربعة عشر صَخبٌ في أحد أقسام السجن ضُباط الإدارة يهرعون الزنازين القريبة تستنفر والسجن برمته يضطرب تُرى أنزلت صاعقة من السماء ما الذي يحدث ! لم يُوقف الضجيج إلا صوت جميل : ( إنها صمود كتبت لي أقسمت بالحب ألا تتركني ) تنهد الأسرى أحدهم أرسل وابلاً من التهاني والثاني وزع الحلوى على الزنازين حتى السجانون نالهم نصيب منها ثالث كان شاعراً وأقسم أن يخلد قصة الحب والرسالة المعجزة بقصيدة تشغف الأذان....فرح مقتطع من زمن أسود ذاك الذي عاشه سجن ريمون تلك الأيام بات جميل عريسا تَحَلّق رفاق القيد حوله ذات صباح وألقوا عليه قولاً ثقيلاً : إسمع يا رفيق قِصَتُك طالت أحبَبَت ، عَشِقت وفتاتك تُبادلك الحب فلما التلكؤ عليك بخطبتها ، تردد جميل تململ وقد وقع ما سمع في نفسه فكتب لصمود وسارت الرسالة في طريقها الذي يبدو أطول من طريق الحرير القديم حتى وصلت أخيراً ليد صاحبتها التي قرأت تبسمت وبدأت مع الأهل صراعاً إستمر لأربعة أعوام لم تنقطع الرسائل خلالها بين عالمي الحرية خلف القضبان والأسر خارجها وإستمر الصراع مع الأحبة رافضي الفكرة وهم في ذلك موزعين بين مشفق ومتردد حتى وصلت لما تريد فتقرر عقد القران في الثلاثين من يونيو لعام ألفين وثمانية عشر.

( ٦ ) لا إشبينٌ ولا عريس

بثوبٍ فلسطيني عَكَفَتْ سنوات على تطريزه وضعت على ياقته وأذياله كل خِبرتها في التطريز وتركت أكمامه بلا إطار فقد عافت نفسها كل ما يحيط الساعدين سواء كان ذلك قيدا ، إكسسوارا أو أكمام ثوب ، بدأت صمود نهار زفافها توافد الضيوف ، عائلتها وعائلة جميل رفاق القيد صحافيون وفضوليون تقاطروا جميعاً لبيت العائلة منهم من إحتفل بزفاف إستثنائي ومنهم من أتى متضامناً أو باحثاً عن خبر لوسيلة إعلام إنتدبته في مهمة عمل ومنهم من أتى لا لشئ إلا ليزيد من معارفه الموسوعية وليستفسر كيف لعروس أن تُزفَ لعريس خلف القضبان وأي فرح ذاك الذي يغيب عنه صاحبه أسئلة صَبَها الجميع على رأس صمود وكانت كعادتها تبتسم تحتضن صورة جميل وتقول ألا يكفيني أني بتُ زوجته وأن إسمينا إقترنا معاً ، ما يجمعُه الحب لا يفرقه أحد هذا زواج كاثوليكي لا إنفصال فيه...لا بل هو قيد كالذي جمعنا منذ زمن...لا إنه حب عذري زواج رهباني لا دنس فيه....مضى يوم الحفل ثقيلاً وإنفض الجمع تأبطت صمود صورة جميل وإنزوت في غرفتها أمضت ليلتها تتحدث مع الصورة وفي الزاوية الأخرى إنفض رفاق السجن المٌحتفلون من حول جميل وتركوه متكوماً على سريره...

حل اليوم التالي وجميل وصمود زوجان لم يلمسُ أحدهما يد الآخر و لم يلتقطا صورة معا لم يتبادلا خواتم الزواج و لم يتناولا وجبة طعام مشتركة واحدٌ في بيت أهله والثاني في سجنه ولكنهما زوجان حبيبان بإنتظار الحرية...تعيش صمود حاليا في قرية صفا بمحافظة رام الله وتعمل في مجال رياض الأطفال ويقبع جميل حتى لحظة كتابة هذه القصة في سجن جلبوع ينتظر التحرر من الأسر عند إتمام مدة محكوميته بعد ثلاث سنوات ويناضلان معا لتأسيس بيت الزوجية الذي إتفقا أن يكون بنوافذ واسعة تستقبل الشمس كل صباح ليشبعا من نورها ويُبَدِدا عتمه السجون والحرمان.