ذاكرة ضيقة على الفرح.. ذاكرة تضج بالوجع
تاريخ النشر : 2020-05-27 19:31

محمد نصار :

في إصداره الأخير "ذاكرة ضيقة على الفرح" والصادر عن دار كل شيء في حيفا، يأخذنا الشاعر الجميل/ سليم النفار عبر سيرته أو سيرتنا إن شئت، إلى مكامن الحكاية الأولى وبداية الوجع، ذلك التاريخ الذي سطرته الذاكرة الجمعية بمداد من دم ومازالت تعيد الكرة في كل عام، لكي تبقى الذكرى حاضرة تتوارثها الأجيال جيل بعد جيل.
تلك هي النكبة يا ولدي، هي أول الخروج من الجنة إلى مهالك التيه.. هي الحكاية التي لا تبدو لها نهاية في الأمد القريب وهي أولى الخطوات في رحلة سيزيف التي لا تنتهي، تأخذنا من محطة إلى أخرى ومن ميناء إلى آخر في رحلة يسكنها الوجع وتسلكها الذئاب التي أثخنتنا جراحا ومازالت.
في تلك السيرة التي امتدت بفصولها المتعددة على بياض مئتي صفحة ونيف وسبعة عقود وأكثر وجابت أماكن ومدن كثيرة، من يافا إلى غزة والاردن ودمشق وبيروت وليبيا...الخ من المدن والمخيمات، التي ما خلت من فلسطيني حمله التيه إلى دروبها، يأخذنا سليم النفار بلغته الجميلة ..الرشيقة، عبر تلك المحطات، ليعيد على مسامعنا سرد الحكاية من جديد ورغم أن فصولها لا تخفى على أحد من جيلنا، إن لم يكن على كل فلسطيني، إلا أنه استطاع بلغته الشعرية وجزالة لفظه ومخزونه الثقافي والفكري، أن يجعلنا نرهف السمع لتفاصيلها من جديد وكأننا نسمعها للمرة الأولى ، أو لم يحدثنا أحد عنها من قبل، ناهيك عن أن كثر عاشوا تفاصيلها وربما على نحو أقسى وأمر.
اللافت في هذه السيرة هو بعدها عن الثرثرة وقفزها عن الأنا والبطولة الكاذبة، فلقد ركزت على محطات بعينها، أو مراحل مفصلية إن شئت من تاريخنا والتي كان لها انعكاسات مؤثرة في مسيرة شعبنا، دون الخوض في تفاصيل كثيرة ترهق النص وتثقله، تحدث عن النكبة .. عن يافا ..عن مخيم الشاطئ ونكسة عام 67 عن النزوح إلى الأردن وحرب أيلول، ثم النزوح إلى سوريا وطفولته في مخيم الرمل والتحاقه من بعد بالثورة، ثم العودة إلى غزة من جديد، كل ذلك بعبارات رشيقة سلسة، فيما بقية الأشياء كحرب الخليج مثلا وانعكاساتها على القضية.. اتفاق أوسلو.. العلاقة مع النظام السوري وغيرها من الأشياء، تعاطى معها باهتمام أقل، أو بتفصيل أقل وأراه وفق في ذلك، حتى لا ينجر إلى متاهات السياسة التي لا تنتهي وخاض فيها كثيرون من قبل.
كذلك وفق الشاعر أو الكاتب في التعبير عن حبه العظيم لسوريا، من خلال سرده لطفولته الأولى في مخيم الرمل، ثم دمشق التي التحق بجامعتها واللاذقية التي هام ببحرها وأهلها وتناوله للكثير من الأمكنة العريقة فيها، بشكل يفيض حبا وإجلالا.
أيضا لم ينس الشاعر لقبه الأول ولم تأخذه حميمية اللحظة وسطوة العبارة للاندياح خلفها والانسياق وراء إغراء اللغة، بل حرص أن يظل الشاعر فيه حاضرا في ثنايا النص، سواء من خلال جمله الشعرية الرشيقة ، أو من خلال النص الشعري مجسدا بأبيات لأبي تمام والمتنبي ودرويش ، كعلامات أضاءت النص وأثرته.
مختصر القول أن الشاعر سليم النفار، كان موفقا في هذه السيرة إيما توفيق، بحيث أنني أكاد أزعم، أنها واحدة من أجمل السير الذاتية التي قرأتها وأخفها على القلب، رغم ما حوت بين دفاتها من مواطن وجع ليست بالقليلة.
كل الحب والتقدير للأخ والصديق الشاعر سليم النفار، على هذا العمل الجميل والذي هو وبلا أدنى شك إضافة نوعية للمكتبة الفلسطينية والعربية على حد سواء.