رشا والهندباء
تاريخ النشر : 2020-02-11 20:18

محمد نصار :

في مجموعتها القصصية الجديدة " الهندباء "، الصادرة عن دار خطى للطباعة والنشر والواقعة في نحو من مائة صفحة أو يزيد، تأخذنا الكاتبة رشا فرحات إلى مواطن الوجع، التي ما فتئت تنهش روحنا وجسدنا المثخن بالجراح، فمن خلال ثلاثين قصة حوتها دفتي الكتاب، تم تسليط الضوء على فداحة المشهد وقتامته، بلغة جزلة.. سلسة ، بعيدة كل البعد عن التكلف، تكسوها لمسة شاعرية، تنم عن ذائقة لغوية رفيعة وقدرة تدلل على امتلاكها فنيات الكتابة القصصية على نحو ملفت والتي بدورها مكنتها من التعبير عن أفكارها ومضامينها بشكل متقن وجميل.
زوايا الرؤية أو الالتقاط، التي انطلقت منها الكاتبة، كانت متعددة ولافتة، فمنها ما يعود بنا إلى سنين بعيدة، كقصة هندباء، التي اختارتها عنوانا للمجموعة وتناولت من خلالها زمن طفولتها في المرحلة الابتدائية وما كان يحدث آنذاك من زميلاتها في الفصل مع هندباء الطالبة الفقيرة.. السمينة.. اليتيمة وما كانت تتسم به من طيبة تصل إلى حد الغباء أحيانا، إلى أن فوجئوا ذات يوم بغيابها ومن ثم علموا بمرضها ومن بعد بوفاتها، دون أن يأسف أحد عليها أو يأتي على ذكرها وكأنها لم تكن وكأني بالكاتبة تغمز من طرف خفي، بأن الطيبين الأنقياء لا مكان لهم في هذه العالم المستبد.
في قصة "فرش العجين" تعود بنا أيضا إلى ذلك الزمن الجميل ، بيوت المخيم ..أزقته الضيقة.. شوارعه الترابية.. أفران الخبز، التي كانت تقصدها الفتيات، مغندرات.. مزينات، كأنهن أميرات أو يشاركن في كرنفال ما، ثم محاولتها التي أرادت من خلالها خوض التجربة مثلهن وهي العائدة من الغربة ولا تربطها بالمخيم سوى الجذور التي نبتت عليها، فترجوا جدتها لأن تجربها ولو مرة، حتى كان لها ذلك وفعلت فعلهن، لكن حين أرادت أن تقلدهن في المشي وفي اللحظة التي أوشكت فيها على انجاز المهمة، اختلط العجين بالتراب.
أما في قصة "باب جدتي" التي رسمت من خلالها صورة بهية لبيوت المخيم الصغيرة والمسكونة بوجع الفقر والغياب، الدافئة بطيبة أهلها وما يسكنهم من أمل، فلقد اظهرت لوحة فنية مزدهرة بالألوان ، البيبان.. النوافذ.. أحواض النعناع، فتضع القارئ أمام لوحة فنية غاية في التناسق، ناهيك عن إحياء الذاكرة التي أوشكت أن تغيب عنها أشياء كثيرة، في زخم ما نحن فيه من مشاغل وتجاذبات، أنستنا أننا أمام عدو يعمل على تغييب الذاكرة، أو حتى شطبها.
كثيرة هي القصص التي وردت في المجموعة بهذا الخصوص وكثيرة تلك التي تناولت واقعنا المزري بكل ما فيه من صراع وتجاذب، حتى احالت واقعنا غلى جحيم لا يطاق، فمنا مثلا من حاول الهرب إلى ذاته والانسلاخ من هذا الواقع بالمطلق، كما جاء في قصة "نوم " والتي تتحدث فيها على لسان طفل فيقول:" تلفت حولي فرأيت أبي مستلقيا إلى جوار أمي، يغفو بعمق ويعلو شخيره صادحا ، تخبره أمي عن قدومي فلا يكترث ويعاود النوم وهكذا لم أصادف أن رأيت عينيه تحدقان بي، بل لم أر لون عينيه يوما، دون أدنى سبب يصحو من نومه مرة واحدة كل عام، يلقي بذرة أخرى في رحم أمي، ثم ينام.
في قصة "شبح" تتعرض الكاتبة للحزبية المقيتة، التي أوغلت سكينها في المجتمع، فلم تبق على أواصر أخوة أو أرحام، فصار الحزب ربا يعبد من دون الله، تقدم على مذبحه القرابين صباح مساء، فتروي على لسان البطل الذي اعتقل على خلفية آرائه، بإيعاز من صديقه المتحزب، حيث يقول صارخا في لحظة انهيار جارفة: باسم الوطن والحزبية والرفيق الواقف خلف الباب، اتركوني أموت على فراشي.
أما في قصة اللوحة السوداء فتناولت هموم الهجرة الجديدة ونظرة الآخر لنا والمعاناة الناجمة عن تلك النظرة المبنية أصلا في الوجدان الغربي وزاداها بلة التأثير الصهيوني، بالترافق مع ما انتجنا من تطرف وهوس، ساهم بشكل كبير في تشويه صورتنا وكل القيم الجمالية والأخلاقية، التي كانت سائدة إلى حين، حتى أنها انعكست بشكل جلي وظهرت جرائم وأمراض اجتماعية لم نكن نسمع بها من قبل وهو ما أوجزته الكاتبة في قصة " اغتصاب" ، حيث تروي على لسان البطلة التي تعاني من سطوة زوجها وقهره فتقول وهي تشكي حالها لأمها للمرة الألف :" هل عودته أنا على اغتصابي كل ليلة.. هل يفعل أبي هكذا.. هل يجرك إلى السرير كلما غضب منك، ليصب انتقامه على جسدك؟
هذه نماذج محدودة من قصص كثيرة، تناولتها الكاتبة بحس مرهف وموهبة واعدة، تبشر بكاتبة جادة، تمتلك كل أسباب الكتابة التي تؤهلها لذلك، فكل التحية لها على هذا الجهد الطيب، الذي أضاف للمكتبة الوطنية إضافة مميزة.