الجمعة 29 مارس 2024

  • أسعار العملات
    العملة سعر الشراء سعر البيع
    الدولار الامـريكي 3.78 3.8
    الدينــار الأردنــــي 5.35 5.37
    الـــيــــــــــــــــــــــــورو 3.04 4.06
    الجـنيـه المـصــري 0.1 0.12

الأنثى الوتد في رواية خيري شلبي

في ذكرى وفاته

  • 09:29 AM

  • 2021-09-10

د. رشا ناصر العلي*:

إن قراءة الخطاب الروائي لخيري شلبي ، تؤكد غوايته لمجموعة (الأحداث العائلية)، التي تتجلى غالباً في عالم القرية، والتي أخذت تضعف شيئاً فشيئاً، لاسيما بعد سوء الأحوال الاقتصادية، وانتقال بعض الأشخاص إلى عالم المدينة، وانشغالهم في تحقيق طموحاتهم الشخصية بعيداً عن الوتد الذي يربطهم بموطنهم الأصلي (الريف).

إنّ نص الوتد من أكثر نصوص خيري شلبي التصاقاً بعالم الأسرة، وتحولاتها الموازية لتحولات الواقع المصري في أربعينيات القرن الماضي، وهو نص محمّل بكمّ هائل من طقوس العائلة في الريف، الذي أخذت ملامحها في الغياب، غياباً دائماً أو مؤقتاً، ومن ثمّ حرص (خيري) على إحيائها حتى لو كان ذلك في حيّز الذاكرة، أي أن النص إحياء لمفهوم العائلة أولاً، ثم هو إحياء للبيئة المكانية والزمانية التي شهد الراوي تحولاتها ثانياً.

ولا نستطيع - هنا- أن نفصل النص عن مؤلفه، إذ حمل كثيراً من مخزونه الحياتي والفكري، واستطاع أن يحول ذلك كله إلى وقائع سردية، وقد عبر أكثر من مرة أنّ هذا النص هو الأقرب إلى قلبه، لأنّه يحمل كثيراً من مخزونه الطفولي عن عالم القرية الأثير لديه، لاسيّما في القصة الأولى (الوتد)، ذلك أنّ بطلتها (فاطمة تعلبة) تحمل صفات كثيرة من زوجة عمه الحقيقية.

لقد ارتبط نص (الوتد) بعالم القرية بكلّ محموله الثقافيّ، ومن ثم جسدت مجموع شخصيّات القصص الأربع تحولات المجتمع المصري في الريف خلال فترة الأربعينيات، من الغنى إلى الفقر، بل ماهو تحت الفقر، وطرق تحايل الناس لمواصلة الحياة، والحفاظ على العلاقات الأسريّة التي أخذت تتمزق تباعاً مع ازدياد الفقر والفاقة.

قبل أن ندخل إلى رحاب النص، لابد أن نشير بداية إلى أن النص قد عبر الحاجز النوعيّ بين القصة والرواية على نحو محدود، فقد تعمّد تفتيت الروائيّة إلى مجموعة من القصص الداخلية هي: (الوتد- المنخل الحرير- العتقي- أيام الخزنة)، لكنه التزم بالحدود النوعية للروائيّة، وقد تمثل هذا الالتزام في خط مركزيّ ممتد في مجموع القصص الأربع، هو شخصيّة الراوي الذي انفتحت ذاكرته انفتاحاً موسعاً على عالم القرية، راصداً تحولاته من الأعلى إلى الأسفل، من الغنى والسيادة في القصة الأولى، ثم تدرج إلى الجوع في الثانية، ثم الحفاء في الثالثة، إلى أن وصل إلى انعدام الظروف الآدمية كلها في القصة الرابعة.

ثمّ إنّه حاصر أحداثه في إطار مكانيّ وزمانيّ معيّن، وحافظ على حضور الأنثى في القطاعات السرديّة الأربعة، بوصفها مؤسسة للأحداث ومؤثرة فيها على نحو من الأنحاء.

يطرح العنوان نوعاً من التساؤل المعطل الإجابة: ما المقصود بالوتد؟

"الوتِد: بالكسر، والوتَد والودّ: مارزّ في الحائط أو الأرض من الخشب والجمع أوتاد، قال الله تعالى: (والجبال أوتادا)، وقوله عزّ وجلّ: (وفرعون ذي الأوتاد)، ووتد الوتد: ثبت.. ويقال وتد فلان رجله في الأرض إذا ثبتها"و"أوتاد الأرض: جبالها"، و "أوتاد البلاد: رؤساؤها" .

إنّ عرض المادة اللغويّة على ما قرأناه في المتن السرديّ، يفيدنا في ملاحظة مفادها: أنّ أوتاد البلاد: رؤساؤها، وأنّ أوتاد النص – هنا – إناثه، ذلك أنّ الوتد في النص كان مرتبطاً بالأنثى التي حافظت على حضورها المؤثر في مجموع القصص الأربع، وكانت مهمتها الأساسيّة تثبيت سلطتها في كلّ هذه النماذج، ومن ثم الحفاظ على الكيان الأسريّ الذي يقوى بقوتها، ويضعف بضعفها، وهذا يعني أنّ السرد الذكوريّ – في هذا النص – يستحضر الأنثى بسلطتها، ومن ثم توالت اللوحات العائليّة دون رابط حقيقيّ بينها، إلا وحدة المصدر (الراوي)، الذي انفتحت ذاكرته على عالم القرية عموماً، وعلى منطقة الأنوثة خصوصاً، مما يعني انحياز السرد إلى عالم الأنوثة انحيازاً كليّاً، واتكائه عليه في مجموع اللوحات، ومن ثمّ كان من الطبيعيّ أن تنتمي الشخوص المحوريّة إلى الأنوثة بوصفها منتجة الفاعليّة في مسيرة السرد، وفي إنتاج الحدث، أي إنّ الشخوص الأنثويّة كانت صاحبة الفعل والانفعال في النص كله، ومن ثم مثلت الوتد الذي أقام عليه السرد طقوسه وتقاليده.

لقد قدّم النص شخصية (فاطمة تعلبة) في القصة الأولى (الوتد)، وهيّأ لها حضوراً مكتملاً، فقد امتلكت السلطتين التشريعيّة والتنفيذيّة، فهي المسؤولة عن توزيع المهام على أفراد العائلة ذكوراً وإناثاً، وهي المشرفة على أدائها، ساعدها في فرض هذه السيطرة (السلطة الاقتصادية)، ذلك أنّ أيّ سلطة لها مستلزمات أولها (الأساس الاقتصاديّ)، وإلى تعلبة يعود الفضل في الحفاظ على أملاك (العكايشة)، بل وتنميتها، وهي لاتفتأ تذكر أولادها بأنّها صاحبة الفضل عليهم اقتصاديّاً بزيادة ممتلكاتهم، واجتماعيّاً بالحفاظ على وحدتهم العائليّة.

لقد كان من مستلزمات السلطة أيضاً الذكاء والحكمة، والقدرة على تدبير الشؤون، وقد كان اختيار الاسم (تعلبة) علامة دالة عل صفات صاحبته، التي استطاعت بفضل ذكائها أن تنمي أملاك العائلة من ثلاثة أفدنة إلى عشرين، وأن تحافظ على الكيان الأسريّ الذي جمع سبعة أخوة مع زوجاتهم وأولادهم، بالإضافة إلى ابنتي (تعلبة)، بهية الأرملة مع ابنها (الراوي)، وبسيمة التي لم يكتب لها الزواج. بفضل هذه السيادة امتلكت (تعلبة) مجموعة من الصلاحيّات، فهي التي تعطي وتمنح المال لمن تريد، وتمنعه عمن تريد، وهي التي تملك سلطة تزويج أولادها الذكور، وكان الواحد منهم لا يجرؤ على الزواج قبل أن يحصل على موافقتها، وغالباً ما تأتي الموافقة بعد مماطلة منها، وإجراءات مهينة خضعن لها نساء الدار كلهن قبل أن يجئن إلى دار (تعلبة)، وهو طقس متعارف عليه في الريف المصري حينذاك، فعندما أراد (الشيخ طلبة) الزواج من سميحة، ذهبت إلى بيت أهلها وعرتها من ثيابها وكشفت على جسدها جزءاً جزءاً، ولم تكتف بذلك إذ أرسلت وفداً من العكايشة يقودهم (درويش) الابن الأكبر، ليأكلوا من طبيخ يدها أكثر من مرة، ومع ذلك بقيت تماطل إلى أن وسّط (طلبة) أخاه (درويش) لإقناعها والحصول على موافقتها، وكذلك عندما أرادت أن تخطب (هانم) لابنها (صادق)، تعقبتها زمناً ولما اطمأنت لسلوكها أرسلت لها وفداً من نساء الثعالبة وإحدى الماشطات للكشف عن جسدها، ثم ذهبت هي لفحصها بحجة أنها ترقيها من عين الحسود. والغريب أنّ (تعلبة) هي التي كانت تختار زوجات أبنائها، وقد كشف السرد أنهنّ كلهن قريبات لها من بعيد أو قريب، باستثناء (عزيزة) زوجة عبد الباقي ابنة (الباشتومرجي)، الذي جاء وأسرته ليعمل موظفاً في المستشفى الجديد وسكن في البلدة، وقد وقع عبد الباقي في غرام عزيزة ولم ينم شهوراً طويلة، ولم تخطبها له إلا بعد أن قامت بتحرياتها عن العروسة وعائلتها، فقد سافرت إلى بلدتهم الأصلية، واختلقت حجة علاج المرضى، إذ كانت تتمتع بموهبة خاصة تداوي وجع الآذان والعينين، وأقامت في بيت العمدة ثلاثة أيام، عرفت أثناءها مايشفي غليلها وتأكدت من نسبهم الطيّب، ثم أرسلت وراء (درويش) لإتمام الباقي، وهنا نلاحظ أنّها كانت صاحبة الحق في إعلاء ابنها درويش على باقي أفراد الأسرة، فجعلت منه كبير العائلة، بل كبير البلدة كلها. ولما كانت لتعلبة كلّ هذه السلطة، كان من حقها أن تفرض قوانينها الخاصة على العائلة كلها، ومن القوانين التي شرعتها: رفض مغادرة مقر الأسرة، أي رفضت إنشاء ممالك أخرى غير مملكتها، فعندما أراد (عبد العزيز) الانعزال في دار تخصه، بعد افتضاح أمره بالتجسس على أخيه وزوجته ليلاً والتلصص عليهما، فلم يعد يطيق العيش في الدار الكبيرة، وقفت تعلبة في وجهه مذكرة إياه أنّها – فقط- صاحبة الأمر والنهي في هذه الأسرة، وليس من حق أحد اتخاذ القرارات، وهددته ولم تكتف بذلك، بل أرادت تأديبه بالعصا، وكادت تطيح برأسه لولا أنّه تراجع إلى الوراء مرتعداً.

ومن القوانين التي فرضتها رفض تعدد الزوجات، وإذا كان ثمة تعدد فإنّه يكون محكوماً بالإنجاب فقط، ومن ثم حولت (تعلبة) الدار إلى وطن، وهذا الوطن له زعيمة واحدة بيدها السلطة هي (تعلبة)، وقد تحول كلّ من في البيت إلى خدمة هذه السلطة الأنثويّة، بهدف استرضائها، فكان منهم المنافق، ومنهم المتمرد، ومنهم المسالم، ومنهم المحايد، وهذا يعني أنّ البيت الذي أسسته (تعلبة) صورة للوطن بأكمله، وبما أنّ للوطن سلطة ذكوريّة، فقد تعمّد الإبداع جعل السلطة أنثويّة في النص، ولعلّ هذا الطرح تعديل لمفهوم خاطئ في المجتمع، وهو أنّ السلطة مطلقة للرجل وأنّ الأنثى كائن هامشيّ ضعيف، ويبدو أنّ هذه النظرة الخاطئة كانت تتأثر بما قدّمه نجيب محفوظ عن السلطة الذكوريّة في رواياته عن السيد (أحمد عبد الجواد)، إذ تصوّر المتلقون الذين قرأوا النص الروائيّ أو شاهدوه ممثلاً أنّ هذا هو نموذج الذكر في المجتمع المصري كله ريفه ومدنه.

إنّ من لوازم السيادة - أيضاً – التبعيّة لمن في يده السلطة، ومن ثم كان كلّ من النص يتبع لسلطة (تعلبة) ويمتثل لأوامرها، ذكوراً وإناثاً، وهنا نلاحظ رغبة السرد في أن تكون الكثرة العدديّة للإناث على الذكور، فهناك سبعة ذكور وتسع نساء بالإضافة إلى (تعلبة) زعيمة الأسرة، التي سيطرت على السرد بداية ونهاية، ومن ثم بلغ تردد اسمها (86 مرة) في إحدى وعشرين صفحة، أي بمعدل أربع مرات في كلّ صفحة. وهذا يُظهر أنّ المجتمع الريفيّ الذي رصده النص يعطي القيمة والفاعليّة للأنثى أولاً، أي إنّ سلطتها في هذا المجتمع سلطة أولى وليست ثانية، وهذا يتوافق مع رؤية الإبداع للأنوثة عموماً واحترامه لها، لذلك لم يكتف السرد بإعلاء (تعلبة)، بل أدخلها دائرة الأسطوريّة، وأضفى عليها بعض الملامح التي تؤهلها لذلك، فقد أعطاها القدرة على علاج المرضى علاجاً أسطوريّاً، عدا عن ذلك جعل السرد تاريخ ميلادها وعمرها معلقين ليتناسب ذلك مع أسطوريّتها، بل أراد لها أن لا تموت، برغم تراكم العلل والأمراض عليها، حتى إنّ ابنها (درويش) أعد لها القبر وتهيّأ الجميع لموتها بعد أن أكد الأطباء أنها حتماً ستموت، وأنّها تلفظ أنفاسها الأخيرة، وإذا بها تبقى حية، وتنتهي القصة بمفاجأة موت درويش حزناً وكمداً على أمه المريضة مرض الموت، أي موت السلطة الذكوريّة، حتى لو كانت سلطة ثانية، لكي تظل السلطة النسويّة صاحبة السيادة.

لقد قدّم النص مجموعة من الإناث يدرن في فلك الحاجة (تعلبة) ويقمن بخدمتها، فكان الدور يأتي يومياً على واحدة منهن لتقوم بدعك قدمي (تعلبة) ساعة أو ساعتين في مطلع النهار، وعددهن (سبع) هن زوجات لأولادها، وكان السرد يقدم الشخصية أولاً، ثم يتراجع إلى الوراء للكشف عن صفاتها وتحديد ظروفها العامة والخاصة.

إذا انتهت القصة الأولى بموت الذكر (درويش)، وبقاء السلطة الأنثويّة ممثلة بتعلبة، كما آلت الأحوال فيها بفضل الزعامة الأنثويّة من الفقر إلى الغنى، وتجسد في هذه القصة الكيان الأسريّ المتكامل.

في القصة الثانية، وهي تحت عنوان (المنخل الحرير)، يرصد السرد لوحة أخرى من لوحات المجتمع في الريف، ويصف حالة الفقر من خلال أسرة بسيطة تقتات على قروش قليلة، ويقع على الأنثى (الأم) عبء تدبير الأمور لتكفيها هذه القروش لشراء القمح، ثم غسله في ماء النهر في طقس ريفيّ جماعيّ مع باقي نساء القرية، ثم تشميسه فوق السطح، ثم طحنه في المطحنة، وبذلك يكون هذا النشاط اليوميّ قد استغرق اليوم كله وأجزاء من الليل، وهنا يشهد الراوي (الخارجيّ والداخليّ) معاناة أمه في ممارسة هذا النشاط المضني، كما يشهد أناتها المكتومة.

ومع هذه القصة بدأ الكيان الأسريّ يضعف، ولم يعد الهمّ الزعامة، بل تحوّل إلى همّ يوميّ سعياً لتأمين لقمة العيش.

في القصة الثالثة (العتقي)، يستحضر السرد طقساً آخر من طقوس الواقع في الريف المصريّ في فترة الأربعينيات، مما اختزنه الإبداع، وهذا الطقس مرتبط (بالعتقي) أو (الجزّام) الذي كان له دور مهم في حياة أهالي الريف، يقوم بإصلاح أحذيتهم المتآكلة، لأنّ الفقر لايسمح لهم بشراء أحذية جديدة، لذلك يعتمدون عليه بشكل رئيسيّ للحفاظ على أحذيتهم أطول مدة ممكنة، وهنا يتوحد الراوي (الواصف) بالموصوف، لينقل لنا تفصيلات هذا الطقس، إذ كانت مهمته داخل النص الذهاب دوريّاً (للعتقي) لإصلاح شباشب العائلة، مع بقاء حلم ظلّ يراوده طوال السرد، وهو الحصول على حذاء جديد يتفاخر به أمام أقرانه من الأطفال، لاسيّما بعد فشل مشروع الحفاء في تحقيق حلمه، وكان سبب الفشل خطأ في أخذ المقاس:"ذلك أنّ المتعهد أخذ مقاسنا بالمازورة، في حين أنّ نمر الأحذية لها نظام آخر خاص. وقد انتهت أعوام الدراسة كلها ونسينا مشروع الحفاء. ولكن أبي لم ينسَ القرش أبداً..."(الوتد: ص82)

قبل ذلك كان تأمين القرش المطلوب قد شكل أزمة اقتصاديّة داخل العائلة، لعدم قدرة الأب على تأمينه، مما أصاب الولد بالهم والغم، بل أخذت تداهمه الكوابيس التي تشبه وجه الناظر الذي تولى مهمة جمع القروش لمشروع الحفاء الفاشل، وأمام حزن الراوي وانحباس دموعه، فكرت الأم في أن ترسل خطاباً إلى الجدة (نفيسة) التي تقطن في المدينة عند أقارب لها، وطلبت منها أن تحضر حذاء جديداً لحفيدها (رمزي) وبعد شهور من الانتظار تصل الجدة (نفيسة) تحمل أحذية لكل أهل البيت، وتحقق لحفيدها حلمه الطفوليّ في الحصول على حذاء جديد، حينها انطلقت مشاعر الفرحة على الأسرة كلها، وخاصة الراوي الذي أخذ يستعجل قدوم المدرسة ليتفاخر أمام أقرانه، وقد عبر السرد عن هذا الفرح على لسان الراوي: "لقد كان حذاء تاريخيّاً في حياتي، إذ بفضله صرت رجلاً في مشيتي وتلميذاً أنيقاً يُحسب له ألف حساب، بفضله صرت في زمرة أبناء الأعيان لسنوات ضمنت خلالها ألا يشتمني أحدهم قائلاً: يا حافي".

إن اهتمام السرد بالوصف التفصيلي لقصة (العتقي) كان هادفاً للإشارة إلى حالة الفقر التي كان عليها أهل الريف في ذلك الوقت، وإلى بداية انكسار الوتد الاقتصاديّ، وكان هذا الانكسار بداية التفكير في انتقال بعض أبناء الريف إلى المدينة، وهذا ما سوف يتحقق في القصة الأخيرة.

قلنا في بداية دراستنا أن الوتد المقصود في النص والممتد في مجموع قصصه هو (الأنثى)، التي تعمل على تثبيت سلطتها بوتدين آخرين هما: الوتد الاقتصاديّ والوتد الاجتماعيّ، وفي هذه القصة بدأ الضعف يتسلل إلى الأوتاد كلها، وبرغم الحضور الكميّ العالي للأنثى – هنا – فإنّه كان حضوراً قائماً على الانفعاليّة أكثر من الفاعليّة، ذلك أنّ الظروف الاقتصاديّة الصعبة كانت تحاصر المجتمع الريفيّ بأكمله وتكبل حركته.

إنّ تراكم الأزمات الماليّة والاقتصاديّة كان عاماً على الريف كله، لذلك بدت (أم الراوي) من وطأة الظروف الصعبة أكبر من أمها (نفيسة) التي تعيش في المدينة، حتى إنّ الراوي لم يكتشف معنى الأم إلا عندما احتضن جدته نفيسة، وقد عجب كيف لم يحدث هذا وهو يلقي بنفسه في صدر أمه، وهذا يعني أنّ ظروف المعيشة في الريف باتت قاسية جداً، ومن ثم بدأ حلم الراوي بالنزوح إلى المدينة، حيث تقطن جدته.

إنّ الظروف الاقتصاديّة الصعبة أتاحت لطبقة أخرى أن تبرز وأن تسيطر، ممثلة في شخصية (العتقي) التي استحوذت على السرد، وقد انعكست صدارتها على ترددها الصياغيّ، إذ ترددت (69) مرة، وقد كانت الخلفيّة الحياتيّة لهذه الشخصية تقوم على استغلال حاجة الناس لمهنته، في ظل الظروف المعيشيّة الصعبة التي لا تسمح لهم بشراء أحذية جديدة، ومن ثم كان ترددهم الدوري على (العتقي) للحفاظ على الحذاء القديم أطول فترة ممكنة، وكان (محمود عيد) يدرك أهميته ويعرف أنّ كل من تعارك معه أو رفع صوته عليه سوف يعود إليه لا محالة، وهنا يطلّ السرد على الواقع المعيشيّ للمواطن المصريّ في الريف وكيف أنّه اعتاد الصبر والتحمل (حمّال آسية)، بل سلطة (العتقي) سمحت له أن يشبه زبائنه بالبهائم: "بهائم ترتدي أحذية فكيف لا تذوب، يخوضون بها في الوحل والغيطان... أقدام لم تتعوّد على لبس الحذاء..."

إنّ شخصية (العتقي) كانت نافذة – كذلك – للإطلال على الطبقات الاجتماعيّة في الريف المصريّ، ذلك أنّ الناس لديهم عقدة الجزمة (من جزمتك يحكم عليك)، وبما أنّ والد الراوي كان موظفاً فكان لابد أن يمتلك حذاء لامعاً نظيفاً، وكذلك زوجته ترتديه عند الخروج على ندرته.

إن الأب الذي بلغ تردده في النص (33) مرة، استحضره السرد في عجزه عن تأمين الاحتياجات الأساسيّة لأفراد أسرته بسبب ضيق ذات اليد، كما استحضره في سخطه على الحكومة التي عجزت عن مساعدة الشعب الضعيف وانتشاله من فقره، حتى عندما قامت الحكومة بتعيين لجنة لأخذ مقاسات طلاب المدارس تنفيذاً لمشروع الحفاء، ظلّ أهل البلدة يتحلقون حول سور المدرسة ليتفرجوا في حالة عدم تصديق، فهم على حد قول الراوي، لم يتعودوا تصديق أي كلام تقوله الحكومة عن أيّ مشروع، وهذا يعني أنّ السرد يشير بأصابع خفية إلى مسؤولية الحكومة عما يعانيه أهل الريف من فقر وفاقة، فالريف ليس من مجال اهتماماتها، التي تركزت على المراكز (المدن)، مما حوّل اهتمام أبناء الريف وأحلامهم إلى الذهاب إلى المدن وهجر أريافهم المهملة، وهو ما تحقق في القصة الأخيرة.

في القصص السابقة كان اهتمام السرد منصباً على تصوير حالة الفقر في الريف المصريّ المهمل من قبل الحكومة، وقد تمثل هذا الفقر في المأكل والملبس، فقصة (المنخل الحرير) تصور حالة الضنك والجهاد الشاق لتحصيل لقمة الخبز، وقصة (العتقي) تصور سعي المواطن في الريف لتحصيل حقّ بسيط جداً هو الحصول على حذاء يمشي به، وقد فشلت الحكومة كما رأينا في مشروع الحفاء، ثم جاءت القصة الأخيرة (أيام الخزنة) لتصور البؤس الشديد من خلال رصد الحياة المعيشيّة لأسرة تعاقبت عليها النكسات والأزمات، وعانت من قسوة الظروف الاقتصاديّة فبات أفرادها يعيشون من قلة الموت على حد قول التعبير الشعبيّ، وهنا نلاحظ الظروف غير الآدميّة التي عاشت فيها الأسرة، وهي ظروف دفعت بعد ذلك الأولاد إلى الهجرة إلى المدينة، ريثما يأتي زعيم من الزعماء وينظر في هذه الطبقة التي تسكن في القاع، بل فيما تحت القاع.

لقد شهدت القصة الأخيرة انكساراً في الأوتاد كلها الاقتصادية والاجتماعية وحتى الإنسانية، إذ لا توجد أي ظروف آدمية تساعد أفراد الأسرة على الحياة، بدءاً من المسكن، الذي هو الخزنة التي ينام فيها الراوي مع أخوته السبعة وأمه وأبيه، وهي أشبه بالقبو أو الزنزانة، حيث تأوي العائلة كلها في مواسم الصقيع، فيها ينامون ويأكلون ويستقبلون ضيوفهم، ويربون فراخهم، وفيها الاستحمام، وقضاء الحاجة، في ظلّ هذه الظروف الصعبة لا تملك الأم إلا أن تدفن هذا القهر المتراكم داخل صدرها، فقد انكسر ظهرها، وبات حمل الأولاد ثقيلاً عليها، وكذلك انكسر الأب الذي انكفأ على الكتب الصفراء ليبحث عن حجر الفلاسفة، الذي يُقال أنّه يحول المعادن الرخيصة إلى ذهب، وكان يعيش على أمل أن يأتي زعيم من الزعماء لينظر في حالهم ويساعدهم، فكان يضع قبالة عينيه صورة لسعد باشا وأخرى للنحاس باشا، ثم صورة لجمال عبد الناصر الذي يرى في ملامحه قوة وتصميماً ونبلاً.

الأحلام كلها انكسرت رغم توالي الزعماء والأيام، والظروف ازدادت سوءاً وظلاماً، وبقي سكان الخزنة على ماهم عليه، ومع انكسار الأوتاد كلها، انكسرت الأنثى التي بنى عليها السرد طقوسه وأعمدته، فبعد رحلة طويلة من البؤس والشقاء وجفاء الأولاد، تخلد إلى هدأتها الأبدية، وتُدفن إلى جوار أبنائها وزوجها، تاركة الراوي يقتات على فراغ حياته وذكريات الخزنة، التي شهدت ذكريات الشخصيات جميعاً من حضر منهم ومن غاب.

وهكذا بدأت الرواية بالوتد وانتهت إلى اللاوتد أو إلى الانكسار على المستويات كلها، الاقتصاديّة والاجتماعيّة والإنسانيّة والسياسيّة، وكأنّ السرد يريد أن يقول: إننا نعيش عصر الانحدار والانكسار والتفكك لا عصر القوة والصعود.

* سوريا :

كلمات دلالية

اقرأ المزيد

تحقيقات وتقارير

ثقافة وفن

مساحة اعلانية

آراء ومقالات

منوعات