الثلاثاء 19 مارس 2024

  • أسعار العملات
    العملة سعر الشراء سعر البيع
    الدولار الامـريكي 3.78 3.8
    الدينــار الأردنــــي 5.35 5.37
    الـــيــــــــــــــــــــــــورو 3.04 4.06
    الجـنيـه المـصــري 0.1 0.12

فصول من كتاب "قراءات نقدية في أدب أبي سرية"

قراءة في رواية "عطش البحر" لرجب أبو سرية

  • 23:37 PM

  • 2020-11-25

د.عاطف أبو سيف:

عند قراءة رواية رجب أبو سرية "عطش البحر" يشعر القاريء أن هاجس البحث عن شيء ما – تفتقده الرواية – والحنين إليه يسيطر على الرواية التي تدور حول عائلة مكونة من عجوز وحفيده والجدة وكنتها، حيث يعمل الشيخ والحفيد في حقل لهما قرب المخيم الذي لجأوا إليه من قريتهم شرقاً، ومن بين ثنايا السطور ومن حميمية بوح كل شخوص الرواية ندرك أننا نترقب الأب أن يأتي من مكان ما، في الجزء الثاني من الرواية ينخرط الابن في العمل النضالي مثل أبيه الذي ندرك أنه خرج يوماً في سبيله ولم يعد.

وفي عملية الحنين والانتظار هذه يرسم رجب أبو سرية لوحة مفككة لعلاقة حميمة لا تتم فيها لحظة اللقاء بين الابن والأب إلا في الأحلام "المزعجة" ودلائل تفكيك هذه اللوحة لها علاقة بطبيعة البوح، حيث كل شخصية لها وتيرتها الخاصة في التعبير عن شوقها وحنينها إلى صور مختلفة تجسد الفراق بما هو محسوس مادي – الأب كجسد – القرية وحنينها حيث البيت والبيدر - وبما هو معنوي حيث الحنان والدفء الذي لن يعوض دفء الأم ولا الجد والابن عنه، في حياتهما يبني خالد وجده أحداثهما الخاصة والمشتركة دون حلقة الوصل التسلسلية بينهما – الأب في هذا البحث لن يروي عطش الولد لأبيه.

والمفارقة التي نكتشفها في ثنايا السطور هي أننا لا نعرف من الأب وعنه إلا أنه مؤطر في برواز معلق على الحائط كما جرت العادة، ونرنو إليه مع حركة امتداد عنق خالد إلى أعلى يتشبع من ملامحه التي تطارده في أحلامه.. والعودة دوماً كما الحنين نهايتها البحر. وصحبة الابن والجد، تحتاج إلى جسر الهوة والمسافة الفكرية بينهما حيث تفقد لغة التواصل في الإقناع نظراً لغياب حلقة الوصل المنطقية والجيلية وبالتالي اختلاف الرؤى يقول الجد لحفيده وهو يحدثه عن القرية آنفة الذكر " أتدري يا خالد لو بعد ألف عام سيجيء جيل يعرف كيف يقاتل .. المهم أن لا نفقد إيماننا بالله" .

يتساءل الفتى بينه وبين نفسه "هل يعني هذا أن انتظر أبي ألف عام"

فيما بين حكمة الفتى وإيمان جده بألف عام والحنين الذي تتميز به الرواية والذي يفوح من بين سطورها يتناغم حول الشخص ذاته لما يجسده من فقدان للجميع، فالزوجة "لم تعرف من الدنيا كلها إلا رجلاً واحداً.. الذي عاش حياته كالخيال مر عابراً ومضى عابراً أيضاً، ولا تختلف معرفتها عن معرفة ابنها فهي "لا تتعرف على ملامحه إلا من خلال الإطار والصورة التي تجيئها في المنام.

والخلاف بين الجد والحفيد يبرز للعيان ليس في المسافة الجيلية بل في أن الأول يطيل النظر إلى الشرق أما الثاني فمهووس بتأمل الغرب وإذا ما فككنا طرفي الصورة وجدنا التالي: الجد ينظر صوب الشرق حيث ترتمي قريته التي هجرها، أما الحفيد فينظر إلى الغرب حيث البحر، مكان العودة المرتقبة للأب، إنه تناقض يوحدهما إلى درجة التكامل في الرؤيا واكتمال مشروع الانتظار وسبر أغوار الحفيد الذي أتعبه انتظار المجهول، والذي يوقده أيضاً.

في رحلة الحنين تلك ترتفع وتيرة الأماني وتتصاعد التهيؤات، فماذا لو جاء الفتى بساط الريح سيطير إلى مجهول والده ليجده ويعانقه، في هذه الرحلة من الحنين ومحاولة القبض على سراب كما قد يعترف الفتى في بعض أقواله، لا يفلح إلا بإنقاذ حياة عصفور ويعيد له الحياة ليلتقي بأنثاه ويمارسان طقوس الحياة الشيء الذي يتنبأ لنا بممارسة فتانا للحب مع معشوقته في نهاية الرواية.

والحنين الجسدي يتمثل بصورته الشهوانية في حنين سميرة إلى خالد وحنين خالد إليها في علاقة شهوانية وجدانية حيث يكثر الهاجس باللحظة التي يجب على خالد مفاتحتها بحبه لها ومبادلته لها أشواقه ولكن لا بد "أن تجيء الإشارة منه هو" والأم تخفي أمنيتها في أن يتزوج وحيدها من سميرة والحنين دائم الاعتمال في دخيلة الرواية براويها وراويتها هو ذلك الذي يشد الجد إلى القرية التي ضاعت وضاعت هناك الطفولة والجدة إلى أيام صباها هناك، والعم صالح إلى ابنه الذي ذهب في البحر ولم يعد وما زال يتملكه أمل عودته، وتتكرر صورة الغروب والشمس الغارقة في البحر دلالة على نهاية تشي ببداية أخرى في دائرية الانتهاء والاكتمال ذات الدلالة في العطش والحنين الذي يسيطر على مجرى الرواية.

في هذا العطش كما يقول العنوان يحاول الجميع الارتواء كل حسب طاقته، الجد والحفيد والجدة والزوجة، وفي عطش الراوي كتابة حياة الولد والجد وعطش الروائي لكتابة الرواية التي تؤرقه حيث تأتي أحداث وأقاصيص الشخوص بصيغة الماضي المندلق من أحداق الذكريات دمعاً ساخناً يكوي لحظة البوح، في هذا البؤس والطفولة المستجداة، والمطر المتساقط من "مزاريب سطح الزنك" تنمو الهواجس ويزداد الحنين لبلوغ درجة النضوج الذي يتخلى رجب أبو سرية عن استكمال مشروعه به لصالح المد الثوري في حياة البطل وعلاقته وهاجسه العاطفي، الأمر الذي أضر بديناميكية التطور المنطقي للبطل وبالتسلسل المتأني للأحداث في سبيل نضوج الشخصية، في هذا الحنين تأتي صورة الصداقة لتعوض البطل عما افتقده، فالبحر صديقه الحميم الدائم الذي يلجأ إليه في كل أوقاته في الرواية، فما نلبث نتركه على الشاطيء في نهاية مقطع من الرواية حتى نقابله في بداية المقطع الجديد عائدا إليه يناجيه ويكشف له عن همومه وفي ذلك يتذكر صديقه في أيام الطفولة الذي مات برصاص الجنود وربما كانت تلك الذكرى إضاءة مستقبلية على احتمالية موت الأب في ظل هذا الغياب كما يولد ذلك موت ابن الحاج صالح المنتظر، وللبحر دوره البارز فمنه تأتي البشائر ومنه تأتي القوارب، وعلى المدى البعيد ترتمي هواجس العودة، وصورة البحر تتجسد في التساؤل عن مكانين مختلفين وزمانين متباعدين متجسدين في البحر هنا، والبحر هناك هذا الولع بالبحر يتجسد بتسمية خالد لعشيقته البحر "أما أنا فأسميك البحر، ليعكس هذا التماهي والتوحد والتجسد. أما ديفيد فيتمنى أن يعود عبر البحر إلى المكان الذي جاء منه تاركاً حبيبته هناك. ومن هذه العلاقة ينقلب الفتى خالد إلى متأمل غامض دائم السرحان والشرود يحلم بأشياء كثيرة.

هذا ما يدفعنا للوقوف أمام فكرة الحلم ودورها في الرواية، يستهل الروائي روايته بتقديم بسيط يخبرنا فيه – نحن القراء – وعلينا أن نلاحظ أننا هنا وجهاً لوجه مع الراوي – الروائي – والذي مفاده بأن حلماً أفلت منه بعد أن أقلقه وحيره، فهو يحاول معنا استعادة تسجيله له.

إنها الرواية – الحلم ومنذ البداية إنه العطش لانجاز مشروع فتى تجسد في هيئة حلم.. وللحلم دلالات واسعة هنا. ففي هذا الحلم الذي ننهمك في سطوره تحت الإيهام بلذته – الرواية ذاتها – يفاجئنا خالد بأحلامه المختلفة التي تتمحور حول عودة هذا الذي نكون كلنا في انتظاره يقول لنا خالد في أحد أحلامه إنه رأى حلماً فيه "توجهت مجموعة من الرجال لم يتبين الفتى ملامحهم باستثناء واحد كانت تتدفق الرجولة في عضلاته ويشرق الضياء في وجنتيه، رجل طالما انتظر رؤيته يشبه الصورة المعلقة أمامه على الجدار" ويدرك خالد أنه لم يعد طفلاً عندما تبدأ الأحلام في غزو لياليه فأمه تكرر عليه بأن "الطفل لا يحلم يا بني، فيستنتج من ذلك أنه لم يعد طفلاً فالحلم معادل للنضوج حيث تكمن شهوة البحث عن المعادل الآخر للصورة، والكابوس لا يتوقف عن ملاحقة خالد. فكل شيء يركض ويجف حلقه والماء سراب في هذه الليالي والموجة ترتطم بالصخرة واللعنة تلاحقه في هذه الكوابيس تفاوتات ومناوشات في إزعاجه وإيقاظه لحس البطل، فالكابوس يحافظ على هاجس البحث عن أبيه والتأمل في صورته المؤطرة خلف البرواز، وفي الكابوس تكثر الرموز مثل القبر والموت والفتاة الرشيقة الراقصة والزغاريد والأناشيد، والمعجزة بخروج الشهداء من قبورهم ليكشف لنا الروائي أن المعجزات تحدث في الأحلام.

كلمات دلالية

اقرأ المزيد

تحقيقات وتقارير

ثقافة وفن

مساحة اعلانية

آراء ومقالات

منوعات