الخميس 28 مارس 2024

  • أسعار العملات
    العملة سعر الشراء سعر البيع
    الدولار الامـريكي 3.78 3.8
    الدينــار الأردنــــي 5.35 5.37
    الـــيــــــــــــــــــــــــورو 3.04 4.06
    الجـنيـه المـصــري 0.1 0.12

فصول من كتاب " قراءات نقدية في أدب أبي سرية"

قراءة نقدية في المجموعة القصصية "تهاويم الأرق" للقاص رجب أبو سرية

عندما يشكل الزمن بناء النص

  • 20:48 PM

  • 2020-11-21

علاء الدين كاتبة:

أراد القاص رجب أبو سرية أن يؤرقنا بأحلامه، فأطلّ بها عنواناً متفرداً لمجموعته القصصية الجديدة.. "تهاويم الأرق" – عنوان يذهب به إلى الشعر، ولكن لا يهرب فيه من السرد. إن أقل ما يمكن قوله عن المجموعة، أنها محاولة جيدة ومحسوبة في التجريب على مستوى اللغة والشكل والمضمون، دخلها الكاتب بروحه الهادئة، وعلى مدى فترة غير قصيرة من الزمن في الأعوام ما بين 1992 و 1997، موزعة بين دمشق وغزة.. ويدل هذا بشكل واضح على أن الكاتب وجد في قصصه المتناثرة نكهة خاصة تجمعها، ألا وهي وحدة موضوعها، الذي شكّل هارموني ونسيج داخلي لأغلب قصص المجموعة، ولذلك جاء العنوان موحداً للروح السائدة في النصوص المتعددة – والتي سنعرف عن قريب مدى الاختلاف والتباين فيما بينها_ . ليس بهدف إثارة الغرائبية لدى القاريء، بقدر ما أراد الكاتب أن يختصر علينا الطريق، فيهدينا المفتاح ومعه بطاقة الدعوة على الصفحة الأخيرة، بعدم التمعن، أو التحليل، أو إثارة الجدل أو التحريض من أي نوع - .. وهكذا يوقع القاريء الغافل في المنزلق، ويهبط به منذ البدء في دهاليز الأرق، علّه يظل قابعاً فيها، حتى بعد الانتهاء من القراءة.

ماذا يريد الكاتب إذن من هذه النصوص التي يلقيها في حجر القاريء ؟.. سوف نشعر بلا شك ببراءة دعوته الأخيرة، لأنه ببساطة لا يريد شيئاً، وواقعيته الشديدة تجعله أيضاً لا ينتهي إلى شيء، فيقف عند عرض الحال، والكشف عن حدود المفارقة البسيطة فحسب، لتبقى المجموعة – كما يذكر أيضاً تراوغ بين السعي إلى الكلام، والرغبة العميقة بالصمت، بين التمرد، وغرائز السكون.. إلا أن مالا شك فيه أيضاً، أنها سوف تثير أرق السؤال، فيقع القاريء في إشراك البحث عن إجابة. ليس داخل النص، وإنما خارجه، أي داخل ذاته القارئة.

يقرر الكاتب أن يبتعد قليلاً عن صخب الحياة، الذي عهدناه له في المجموعة السابقة "ليس غير الظل" .. فلا يفلت تماماً إلى عالم الخيال والحلم، بل يحاول السير هذه المرة وحيداً بين التخوم ويمر فوق الجسر الضيّق للهامش بين الحلم والواقع.

ينسحب الكاتب من الضوء الصارخ إلى الظلال، حيث تنبت الهواجس .. وقد ينساق للغوص أكثر في الظلام، حيث تتحول هواجس النهار في الليل أو المنام إلى كوابيس وأحلام مزعجة، ورغم هذا، لا يلغي الواقع، بل يبقيه حاضراً في الظل، وقد تلوح لنا ملامحه، لكنّ همّه يبقى داخل الدائرة التي يهرب منها – كغيره – إلى زحمة الحياة .. إنها دائرة الأرق.

يختلف الشكل من قصة لأخرى باختلاف أجوائها، ونلحظ أن الكاتب كلما اقترب من حافة الحلم، فإن الشكل التقليدي يتفكك لصالح الأخير. ويتفاوت الحلم بتفاوت زمن السرد، رغم أن الحدث أو الفعل يعيش في المجموعة غالباً زمن (الفعل المضارع)، إلا أن هذا الحاضر لا يبقى زمناً عادياً ومحايداً للسرد، بل يرسم الزمن في مدى علاقته بالحلم وارتباطه بموضوعة الأرق/ الأفق الذي يشكل بناء النص.

ويمكن وفقاً لهذه الرؤية تقسيم المجموعة إلى أربع فئات مختلفة كما سنبرهن الآن .. وسوف نلحظ أيضاً أن اختلاف الشكل ترافق معه اختلاف اللغة، العلاقة بالمكان، وعلاقة الراوي بالشخوص، بل وتتفاوت أيضاً مدلولات الأرق (المضمون) من فئة لأخرى أو من قصة لأخرى وفقاً لآلية اختلاف زمن السرد.

يمكن توضيح هذه الاختلافات البينية بين الفئات في الجدول (1) المبين، والذي نعتمد عليه في الشرح، إذ نلاحظ في الفئة الأولى، والتي تضم القصص الثلاث الأولى، إدغام زمن السرد مع حلم الليل أو المنام، لتشكل تفاصيل الحلم أو الأحلام المتوالدة الشكل النهائي للقصة أو النص، بمعنى اندماج الشكل بالمضمون .. ثم ينفصل هذا اللاحم في الفئة الثانية من المجموعة إذ يقرر الكاتب الهبوط من أرق الليل إلى أرق النهار والحياة بمجملها .. يعود من زمن / أرض الحلم إلى زمن/ أرض الواقع. إلا أن هذا الكاتب الذي يترنح بين الحلم والواقع، يتوق للتلاحم مرة أخرى في (رجع الرؤى، ومداهمة التضاد) الفئة الثالثة، وينطلق من الحاضر إلى الزمن المطلق. يخرج من ثقب الليل والكابوس إلى فضاء التأملات الشاردة وأحلام اليقظة، فتذوب عناصر البناء إلى حدٍ بعيد ، ويندمج المضمون ليس بالشكل فحسب، بل يتلاحم الإثنان في فضاء الزمن المطلق، وتغيب الفوارق..

ولكن.. هذا القاص المراوغ، لا يؤثر أن يغلق الدائرة، إذ سرعان ما يفلت، ويفضّل السكون على التمرد، فيضيف إلى المجموعة ثلاث قصص قصيرة جداً تمثل الفئة الرابعة والأخيرة، يعتمد فيها على اللقطة/المفارقة كعنصر رئيس للبناء ينزوي فيها عنصر الزمن، ويتحول إلى زمن اعتيادي.. ونبين في الرسم (1) المقدم حركة بناء الشكل بين الصعود والهبوط، استناداً لارتباطها في الزمن والمضمون .. ثم أخيراً، فإن ما يسجل للكاتب في الشكل من ناحية التكنيك، هو قدرته على كشف نهاية الحدث / الفعل / المفارق في آخر النص، بل وفي العبارة الأخيرة.

جدول (1)

تشكيل الزمن لبنية النص

ترتيب الزمن المضمون الشكل اللغة علاقة المكان بالشخوص

الفئة الأولى 1. في المدينة الغريبة

2. العمق الدفين

3. الدمية الليل أو المنام أرق الحلم نص الحدث لغة الحلم سلبية

(تلاحم الشكل بالمضمون)

الفئة الثانية

(أ) 4. وحدة

5. القلق الحار النهار

أرق الوحدة وفقدان الأصدقاء نص الموضوع أو الفكرة

(تقليدي) لغة سردية شاعرية،

وتأملية أحياناً بين الإيجاب والسلب

(ب) 6. إعلان تعارف

7. حلم مراهق

8. أحلام أرق المراهقة والأحلام الطازجة

(ج) 9. قراءة ليلية

10. إختلاج مفاجئ

11. روعة الأزرق أرق الحنين للمراهقة والشباب

(د) 12. وفاء السيدة

13. القرط الذهبي

14. جدّي استرجاع أرق الحياة

الفئة الثالثة 15. رجع الرؤى

16. مداهمة التضاد مطلق أرق الذات نص مفتوح لغة تأملية منتفية

(تلاحم الشكل, المضمون بالزمن)

الفئة الرابعة 17. إشتهاء

18. حكمة

19. مسؤول اعتيادي

(الحاضر) المقارنة نص اللقطة سردية محايدة

تعيش الشخوص عالم المدينة/ المكان , الطبيعة الذي ينبت فيه الأرق.. ولكن هذا المكان لا يتكشف كاملاً دوماً، بل نرى ملامحه بالقدر الذي تريد منه الشخوص فحسب، فلا يكاد يحضر المكان خارجها، وتظل علاقتها به تتراوح بين السلب والإيجاب وفقاً لروح النص.

هكذا نلحظ أجزاء المدينة في الحلم تظهر غريبة ومخيفة. وقد جاءت اللغة تعبّر بشكل فائق عن أجوائها النفسية .. فـ "يسود الليل"، "الوشوشات الخانقة" ، "السكون القاتل" .. (ص5)، "العيون المتربصة" ، "كتل الظلام المخيفة" .. (ص 8) ، "العتمة السحيقة" (ص 11) .. الخ.

أما فيما بعد، فتصبح المدينة نهاراً أكثر ألفة، محبوبة، ومكاناً للانطلاق والتأمل في ثراء الشارع "بالأجساد الطازجة" كما في قصة القلق الحار (ص 19)، أو ذخر الطبيعة بالحياة والجمال .. "أراقب حفل التلاقح بين الندى والعطر، تدبّ الحياة في خلاياي، أودعهم، وأرغب في احتضان المدينة" (ص37)، وفيما أعتقد، أن الكاتب وصل هنا إلى أقصى حالات التلاحم والحب للمدينة من خلال شخوصه.

لم ينكسر المكان كثيراً فيما بعد بسبب ما حدث من انقطاع في حركة بناء الشكل، إذ ينتفي المكان لصالح الزمن في النص المفتوح نهائياً، أما في نص اللقطة، فتبرز صورة المكان كخلفية للمشهد فحسب، محايدة، ومنفصلة عن شخوصها.

شكل (1)

حركة بناء الشكل داخل المجموعة القصصية

(النص المفتوح)

جاءت لغة النص في علاقة وطيدة مع المضمون، حيث نلحظ في البداية طغيان مفردات الحلم على مفردات السرد "وفي العمق بدت كتل الظلام مخيفة ومرعبة" (ص8)، "في جوف العتمة السحيقة"، "تتحرك الكائنات بداخلي" (ص11) .. ولكن مجرد ما نخرج من الكابوس، حتى تأخذ اللغة سماتٍ أخرى، ويبرز هذا التنوع أكثر ضمن الفئة الثالثة، أكبر الفئات على الإطلاق.

تتجه اللغة هنا أكثر نحو السرد، ولكنها لغة شاعرية، وتأملية أحياناً، تتراوح بين الحدّة والرقة بقدر ما تضغط الحالة على شخوصها بقدر ما تسم الحالة جميعها بسماتها, فينجح الكاتب في المزج بين أساليب اللغة وفقاً لاحتياجات النص الواحد في مواقعه المختلفة، فينتقل بسهولة من الحلم إلى السرد، أو من السرد إلى التأمل .. وهكذا.

وإذا أردنا ضمن هذه الفئة الواسعة، استقراء إحساس اللغة بالزمن، سنجد أن شخوص المراهقة – على سبيل المثال – بدأ إحساسها بانفلات الزمن نحو الأفق، تكاد تقترب به إلى المطلق، الذي يتوّجه الكاتب في نصوص أخرى. "فتطلع إلى الأفق، حيث ظهرت له زرقة السماء بصفائها الآسر، صفحة متسعة لإطلاق أحلامه كحزم من النور الملون" (إعلان تعارف، ص 23).. يتوارى الزمن هنا، لكنه لا يختفي، إذ سرعان ما تنقلب حالة الانطلاق إلى قلق دءوب على الساعات والدقائق عند حضور موضوع المراهقة .." إنها الرابعة إلا ثلثاً، فقد تكون ساعتي غير مضبوطة، إذن أسألها.." (إعلان تعارف، ص 24) .. و عندما يضغط العمر، يختلف الإحساس بالزمن و "تمر الأيام برتابة مقيتة، وتموت معها الساعات الفارغة" .. وتختلف .. أيضاً تفاصيل الأرق، فتتسع لتمتد إلى الحياة بأسرها (قصة جدّي)، أو تنغلق على جمرة الحنين المتقدة للأيام الخوالي وللزمن الجميل الذي لا يعود .. "إنتابه حنين عارم لأيام الشباب" (إختلاج مفاجيء ، ص 51)، ولكن "الأيام تفرّ كقطرات ماءٍ من بين أصابعه" .. لا يختلف الإحساس بالزمن فقط، بل في المكان أيضاً،.. ويبدو شاهداً محايداً على الضجيج الذي ملأ الشوارع" (ص52).

وهكذا تعمل اللغة على تكوين المضمون، وترسم أيضاً الإحساس بالزمان والمكان وعندما تصل العلاقة بين العناصر إلى ذروتها، تحيل نفسها إلى لغة تأملية بحتة، سرعان ما تنكسر، وتهبط من عليائها إلى لغة السرد العادية، حيث يسير خطا الزمان والمكان متوازيين أفقياً، ومحايدين للمضمون والشخوص معاً..

إجتهد القاص في مجموعته على حضور شخصية محورية داخل كل نص تمثل موضوعة الأرق، باختلاف تلاوينها.. لكنه لم يجتهد على الأرجح في تحديد صيغة (ضمير الراوي، والذي يحدد مدى علاقته (أي الراوي) بالشخصية.

يمكن تحديد ثلاثة أشكال من علاقة الراوي (القاص نفسه هنا) بالشخصية المحورية، يوضحها جدول (2-أ) المبين، وهي تتدرج من العلاقة المباشرة، حيث تظهر الشخصية الراوية بضمير المتكلم، وتنتهي بعلاقة انفصالية بينهما، باستخدام الراوي ضمير الغائب.. وتقع بين هذين الشكلين علاقة متوسطة ذات إشكالية، هي علاقة "التماهي" بين الراوي والشخصية، إذ تكون الشخصية هي الراوي في مضمونها، ولكن الراوي السارد يفضل استخدام ضمير الغائب لخلق نوع من وهم المسافة بينه وبين الشخصية.

والسؤال إذن، هل هناك مبررات أو ضرورة فنية لخلق هذا النوع من العلاقة؟

.. فيما أعتقد، أن القاص الجيد لا بد له من المحافظة على المسافة بينه وبين الشخصية حتى لو كانت هي الراوية، وذلك حرصاً على حضورها داخل النص، وعدم استلابها من القاص نفسه، فيعطيها نوعاً من استقلال الحركة عنه، في سبيل تتبعها واستكشاف كوامنها، ومن ثم انفلاتها من قبضته إذا أمكن .. هذه العلاقة القلقة تحتاج إلى قاص محترف ومتعدد الشخوص أيضاً، يعرف متى يضع الشخصية المنبثقة عنه في مسارها الخاص في الوقت المناسب.. ولعلّ المساحة المتاحة في القصة القصيرة هنا، لم تسمح للراوي/ القاص بإفلات الشخصية من يده، وهذا ما يحلل غياب المبرر الفني لخلق علاقة لم تصل إلى غاياتها..

ولنقارن على سبيل المثال، علاقة الراوي بالشخصية في قصة "وحدة"، بينها وبين قصة "القلق الحار" التي تليها .. في الأولى استخدم الراوي ضمير المتكلم، فلم يظهر عنده إشكال في العلاقة، في الثانية استخدم الراوي ضمير الغائب، وبقراءة متفحصة، نستنتج إمكانية استخدامه لضمير المتكلم، دون إحداث أي خلل في البناء الفني.

وعلى عكس هذا، قصة "إعلان تعارف" التي تليهما مباشرة .. فإن استخدام الراوي لضمير الغائب، كان مبرر (فني) لحضور شخصية ثانية (الفتاة) مشاركة في صنع الحدث .. ورغم أن الشخصية المحورية هنا، لا مانع أن تكون نفسها الراوي، إلا أن استخدامه لضمير المتكلم، كان يمكن أن يضر بحضور الشخصيتين، إذ دخلته كل منهما بمونولوج خاص بها – لتعبرا عن لحظة انفلاتهما من الراوي..

جدول (2)

أ ب

الترتيب علاقة الراوي بالشخصية المحورية الضمير المستخدم في النص أنماط الشخوص وعلاقتها بالحدث

محورية مفقودة حاضرة فرعية

ف1 1. في المدينة الغريبة تماهي غائب / / / /

2. العمق الدفين أبو الفوز الولد المعلم يونس صابرين

ف2 3. القلق الحار غائب + مخاطب / مؤنس

4. حلم مراهق / /

5. إختلاج مفاجيء / سلوى

6. روعة الأزرق / /

ف3 7. رجع الرؤى غائب + مخاطب /

8. مداهمة التضاد /

ف1 9. الدمية مباشرة متكلم /

ف2 10. وحدة / عصام سلوى وغيرها

11. قراءة ليلية / / حازم

12. أحلام / /

13. جدّي / عبد الدايم (الجد)

ف4 14. اشتهاء / / السيدة ناضجة

15. حكمة / /

16. مسؤول / /

ف2 17. إعلان تعارف انفصال غائب + متكلم / /

18. القرط الذهبي غائب + متكلم ديب خديجة

19. وفاء السيدة غائب وفاء الأولاد، أم الخير، القاص

مفتاح 1 : ف = فئة مفتاح 2 : ( / ) = غير مصرح به

عموماً، من التجني القول، أن علاقة التماهي تخلو من الجمالية الفنية، أو من مبرر حضورها .. ففي أول قصة بالمجموعة "في المدينة الغريبة"، أتاحت هذه العلاقة للراوي مراقبة متأنية لأجواء الحلم، وتأثيراته المتراكمة على الشخصية الحالمة.

ولعل الكاتب في أغلب الأحيان، كان يقع لحظة الكتابة تحت تأثير حالته الوجودية – وهي لحظة غير واعية – أكثر من إدراكه للضرورات الفنية اللازمة لحضور الشخصية، وهي عملية واعية بلا شك .. وهكذا في كل مرة كان يضعف فيها الراوي/ القاص أمام الاعتراف، كان يلجأ للتماهي. ليس بغرض الهروب – كما قلنا – والذي هو ليس بهدف الكاتب. لكنها محاولة للإلتفاف على الذات المراوغة، ووضعها على سكة الإقرار ومن ثم المواجهة .. كانت هذه المحاولات من الكاتب تفشل أحياناً، و تنجح أحياناً أخرى، ولعل النجاح الأكبر الذي يسجل له جماليته، جاء في النص المفتوح، حيث تتوج الخطاب التأملي للذات، بحضور الشخصية داخل المرآة، ليخاطبها بضمير المخاطب، فيضعها أمام قدرها، كما في رجع الرؤى.. "لن يطول بك السير، يا أيها الولد المكبل بالرؤى، واستباقات المراحل، والتوقع والتوجس من قادم الأيام .." (ص 48)، أو لتناجي حلمها الطري وأمنياتها الجلية .. " ما أروع الأنثى حين تداهمك، بعد أن يطول اشتهاؤك، وما أجمل اللحظة، حين تمتد كدهر من السنين الصاخبة" (ص 70، مداهمة التضاد).

.. ينقلنا الحديث عن علاقة الراوي بالشخصية المحورية إلى حديث مقارب عن طبيعة الشخوص التي شكلت أجواء الحدث داخل النص، وفي محاولة للاستقراء عبر الجدول (2-ب) يتضح أن هناك مميزات عامة تكررت لدى الشخوص في النصوص المتعددة، تسمح لنا بتصنيفها إلى أنماط وفقاً لطبيعتها وعلاقتها بصنع الحدث .. وهي تتمحور في إطار أربعة أنماط رئيسية.

النمط الأول: الشخصية المحورية:

وهي شخصية حالمة غالباً، ينبني عليها تطور الحدث، دائمة القلق والتوجس، ودائمة البحث عن حضورها في الحياة الواسعة، وحضور الآخر فيها .. لذا فهي شخصية مستقطبة، ترسم في العديد من النصوص حضور الشخصيات الثانية وتهييء حركتها ضمن توجساتها .. ولكن الواقع يتدخل أخيراً ليحدد مدى العلاقة الممكنة معها .. وكثيراً ما كانت تصاب بالإحباط (حلم مراهق)،

أو تصاب بخيبة الظنون (القلق الحار)، وقد تنتهي بالانسحاب الهاديء (قراءة ليلية)، أو تستيقظ من حلمها على ضربات الواقع كما في قصة (حلم).. وهكذا.

النمط الثاني: الشخصية المفقودة (ثانية):

وهي شخصية شبه غائبة، سواء كانت صديقاً، أو فتاة معشوقة، يستهيم بها الحالم أغلب الوقت، ولا تظهر إلا في النهاية تقريباً لتحسم الحدث بالطريقة التي ذكرناها آنفاً، وقد يخلق الراوي أحياناً من موتها حضوراً يهيمن على الحدث، مثال (الولد) في قصة العمق الدفين، أو الزوجة (خديجة) في قصة القرط الذهبي.

النمط الثالث: الشخصية الحاضرة (ثانية):

وقد ظهرت في بعض النصوص على خلاف الشخصية السابقة، فهي حاضرة منذ البداية وتشارك في صنع الحدث بصورة موازية ومساوية تقريباً للشخصية المحورية كما في قصة "إعلان تعارف"، حتى موت الجد عبد الدايم (في جدي) لم يؤثر على فاعليته، بسبب الاختيار الموفق للزمن، وهو زمن استرجاع الذاكرة، لذا فإن حضورها تميّز بالإيجابية أكثر من الشخوص في النمط السابق والتي تميزت بالسلبية غالباً.

رابعاً: شخوص فرعية مشاركة:

إستند عليها الراوي في أجزاء من الحدث، ولكن حضورها كان استثنائياً أحياناً، غير مميز، ودون ملامح، مثل حضور سلوى في قصة وحدة، أو حازم في قراءة ليلية.. ولكن هذا الحضور بدأ يأخذ ملامحه أكثر عند السيدة "ناضجة" في اشتهاء، وقد ظهر هذا النمط أكثر ثراء في قصة وفاء السيدة، حيث تعددت الشخوص المشاركة، فمن الأولاد، والأم، والراوي، القاص نفسه، إذ ساعد حضوره المراقب والمحايد، على تقمص السيدة وفاء دوره كقاص، فاختلقت شخصية أخرى متخيلة (أم الخير) تحكي من خلالها لأولادها حكاية عيد الأم.

لعلّه يتوجب ألا ينتهي من القراءة دون الغوص في موضوع الحلم، وقد لا حظنا كيف ارتكز القاص في الفئة الأولى خاصة على سرد الأحلام .. هذا ما ينحو بنا لقراءة سيكولوجية لها، وما يدعونا للقول أن الكاتب استند إلى حلم واحد تكررت تفاصيله بصورها المختلفة، وهو " حلم الهروب" أو "المطاردة" الذي يرتبط بالإحساس بالخوف الكامن في العقل الباطن، ويصنف هذا النوع ضمن "الأحلام النمطية" التي يتوحد بها أغلب الناس .. ولا أدري إن كان الكاتب كان مدركاً أن توظيفها يؤدي إلى استثارة هواجس وبواطن مماثلة لدى المتلقي، أم أن عبث الكتابة واستيهام الذات الحالمة قد جاء بهذه النتيجة!! ..

عموماً، للبرهنة على التكرار، يمكن أن نقارن بين مشهد الكلبة التي تتلوى دون رأس في المدينة الغريبة، وبين مشهد السيارة اللعينة التي يتوقعها الراوي أن تهرس عظامه في العمق الدفين، إذ أن كلا المشهدين يشكلان الذروة التي وصلتها عقدة الخوف .. أيضاً فإن هاجس الموت يبرز في نفس القصة بشكل واضح معبراً عنه بصورة الجسد المتصلب الملفوف بالقماش، حيث تتراءى منه أجزاء "تسوخ في الرمل الذي بدا كمستنقع من السبخ أو كالدوامة في بحر من اللزوجة العكرة" (ص8) .. يستعيد المشهد نفسه في قصة (الدمية) عند النظر تحت الجسر، حيث يرى "المياه الراكدة والسبخ في أحشائها" (ص 12) .. ويظهر الجسر هنا كالحد الفاصل أو كالبرزخ القائم بين الحياة والموت .. لقد تمادى الكاتب هنا بالحلم على حساب الحدث، فيأخذ بالتنقل من حلم لآخر، رافعاً وتيرة قلقه الوجودي، ولم ينقذه من حقيقة الوهم غير الواقع والدمية الجامدة بين يديه .. لعل هذه القصة ضمن المجموعة تمثل نموذجاً جيداً للخروج عن الشكل لحساب المضمون.

.. ينبع الخوف لدى الكاتب من أرق عميق يلاحقه بفقدان الأشياء طزاجتها وبراءتها الأولى، وهو قلق موضوعي نابع من صيرورة الحياة ومضيّها، لذا كان الزمن محوراً رئيسياً للأرق ... وقد تجلى الأرق في معانيه بالرغبة والبحث الدءوب عن المرأة الشهية، الطازجة، المتجددة دوماً. توالى حضورها عبر تقلبات الزمن، وظلت موضوعاً دائماً للتأمل والحلم .. وفي الوقت ذاته لم يرغب الكاتب/الراوي أن يخرجها من تمنعها عنه، لأن هذا التمنع المقصود بات يشكل له لذة خاصة، تعادل خيبة أمله في المرأة نفسها، عندما تصبح ملموسة ومعاشه. لم تختلف المعادلة عنده في المنام عنها في اليقظة. فظلت امرأة الحلم "أشهى شيء في الوجود شريطة ألا تكون زوجتك" (الدمية، ص 13)" ، ويؤدي به هذا الاختلاف عندما يفترق عنه زمن الحلم، إلى البحث عن فتى كان مثله، ليحدثه عن اشتهاءاته المتمنعة لكل نساء الدنيا، عدا واحدة..

كلمات دلالية

اقرأ المزيد

تحقيقات وتقارير

ثقافة وفن

مساحة اعلانية

آراء ومقالات

منوعات