الخميس 28 مارس 2024

  • أسعار العملات
    العملة سعر الشراء سعر البيع
    الدولار الامـريكي 3.78 3.8
    الدينــار الأردنــــي 5.35 5.37
    الـــيــــــــــــــــــــــــورو 3.04 4.06
    الجـنيـه المـصــري 0.1 0.12

قراءة في مسرحية صانع الماء بين البعد الفلسفي والبعد الفني للكتابة

  • 19:18 PM

  • 2020-05-17

د. سعيد عياد:

 السؤال الذي نطرحه: هل فن الكتابة المسرحية يجب أن يقتصر على الكوميديا، سواء الكوميديا الترفيهية أم الكوميديا الساخرة الناقدة ذات الرسائل السياسية والاجتماعية؟ وعلى ذلك هل يمكن للنص المسرحي أن يكون قادرا على أن يكون نصا فلسفيا؟
في الحقيقة الفكر الفلسفي، الذي يقوم على ثنائيات متناقضة، كالخير والشر، الحياة والموت، الجوع والشبع، الحق والباطل، وما ماثل، يحتاج إلى نصوص وقوالب فنية وأساليب كتابة قادرة على توصيل الفكرة إلى المتلقي بمضامينها ورسائلها العميقة، كي تؤثر فيه وتدفعه لإعمال العقل في النفس وما حولها من كونٍ وسيع بكل ما فيه من موجودات. ونعرف أن الكتابات الفلسفية لكبار فلاسفة العالم وعلى امتداد التاريخ كان تكتب بأساليب السرد التحليلي، وقلة من حمّل جانبا من فكره الفلسفي على نص مسرحي.
"صانع الماء" وهي نص فلسفي للدكتور ماجد عياد حمّل على نص مسرحي، يقع في عدة فصول وتدور أحداثها على خشبة مسرح مباشر سيتابعه متفرجون وجها لوجه، وهذا ما يعني أن النص المسرحي هنا سيتعين عليه إحداث اختراقات عميقة وكبير وربما إكراهات لجذب المتفرجين ( المشاهدين) لنص غير كوميدي بل نص يحتاج أثناء المتابعة إلى التّفكّر وإعمال العقل، فيتحول المسرح برمته من ممثلين ومتفرجين وفنيات وتقنيات إلى جلسة فلسفية ليس سهلة. فالمشاهد للنص المسرح الفلسفي سيكون شريكا في التفكر في مضامين النص ورسالته للوصول إلى مقاصده العليا، بعكس المسرح الكوميدي الذي يعتمد بالدرجة الأهم على قدرة الممثل في توصيل الرّسالة ومن ثم إثارة الضحك عند المتفرجين، وسيكون المعنى الذي وصلهم إجماليا وليس تفصيليا.
عندما شرعت بقراءة مسرحية " صانع الماء" ويتجلّى من عنوانها وهو العتبة الأولى للنص، سيميائية البعد الفلسفي للنص/ فهل الماء يُصنع؟ كان واضحا أن الكاتب يدعو القارئ أو المتفرج للبدء بعملية التّفكير، وبالتالي هو جزء من النص ومكتشف غايتها العليا. حينما نفكر عميقا في دلالات العنوان، فإن النص يقودنا إلى عملية الإبداع في كل شيء، وألا يكون المرء ماصا لما يتلقى أو مكتفيا بما يُصنع له، بل هنا تأكيد على إعمال العقل الفردي ومن ثم إعمال العقل الجمعي والجماعي للتطوير وللتغلب على مشكلات الحياة، قد تكون الكوميديا في المسرح وسيلة تفريع ، بينما سنكتشف في نص " صانع الماء" أن الفلسفة هي صانعة الإبداع، مع التأكيد على عدم الإجحاف بمقاصد الكوميديا التي هي ضرورة عند مواجهة تعقيدات الحياة. على لسان وأدوار ست شخصيات رئيسة وأخرى أقل ثانوية، ودون أن يعطيها الكاتب أسماء مباشرة بل رمز إليها بالترتيب ( الأول، الثاني، الثالث، الرابع، الخامس، السادس)، ما يعني أن الكاتب أراد أن يوحي للمتفرج او القارء أنه يكون واحد من هؤلاء، وبالتالي هو جزء من صناعة المستحيل المتمثل في صناعة الماء، أو بدلالات أخرى صناعة الخير ومقاومة الشّ). إذن هنا على لسان هذه الشخصيات الرمزية صنع الكاتب رؤيته وفلسفته في الوجود بتجرد. فعلى لسان هذه الشخصيات في حواراتها، يطرح الكاتب في النص سؤاله الرئيس الجوهري والمركزي:
_ ما هو الإنسان؟
هنا يدور الحوار بين الشخصيات الرمزية، وتتابع الأسئلة العميقة ومنها
_ كيف نهرب من الوهم؟
• والجواب البسيط هو بالهروب الى وهم جديد.
_ وكيف نفكر خارج الصندوق؟
• والجواب البسيط بالخروج الى صندوق أكبر منه
_وكيف نفهم الموت؟
• والجواب البسيط بتجربته ونحن أحياء
_وكيف نرى الصورة الكاملة؟
• والجواب البسيط بالاقتراب حتى لا يمكن الرؤية .
_وكيف نفهم العلم؟
• والجواب البسيط هو بفهم ميتافيزيقيته.
وأخيرا يصل النص إلى السؤال الأهم وهو كيف نكون أحرارا؟
• والجواب البسيط، بأن نولد بدون جغرافيا وتاريخ .
وبالتالي ما هو الإنسان ؟
من الواضح أن طرح هذه الأسئلة الجوهرية من خلال النص وعلى لسان الشخصيات بطريقة عفوية تلقائية، يتجلّى التّنوير للبشرية، وهو البحث عن الإنسان في البشر، أي الخير. فالإجابة عن سؤول من هو الإنسان ومن ثم عن ما هو الإنسانية أي ماهية الإنسان؟ سيكون دور العقل الفاعل للوصول إلى الإجابة الشافية. وهذا ما عبرت عنه لوحة الغلاف وهي رسم بسيط لكن دلالاته الفلسفية عميقة جدا وبعيدة الرؤية نحو مستقبل لا حدود له للبشرية عند البحث عن الخير فيها. فيظهر الرسم قبضة بشري يحاول أن يصنع الماء أي المستحيل فيظهر النور الذي يتمدد في البشرية جمعاء.
على الرغم من طول النص الذي يقع في نحو 150 صفحة من الحجم المتوسط، إلا أن براعة الكتاب في تحويل الرؤية العميقة المعقدة وإجراءها بلغة سهلة رصينة واضحة ومحكمة بصيغة الحوار المكثف سيمكّن من تحويل هذا النص من نص مكتوب إلى أداء مسرحي يمكن أن يُؤدّى على خشبة مسرح أمام متفرجين، ولاسيما أن الكاتب حرص على أن يحد تفاصيل بناء خشبة المسرح وكأنها قائمة في الواقع من خلال عبارات الربط بين المشاهد ومن خلال رؤيته لبناء الديكور وحركة الشخصيات ( الممثلين ) على خشبة المسرح والإضاءة والديكور، وكأن الكاتب لم يكتف بكتابة النص وإنما إخراجه أيضا، وهذا يؤكد أن صانع النص أي نص ( مسرحي أو روائي أو قصصي أو شعري) هو الأقدر على بناء بيئة نصه عند تحويله إلى واقع إما بالحركة على الخشبة أو تحويله من نص مكتوب إلى نص مصور كما في التلفزيون أو السينما.
إن مسرحية "صانع الماء" تمثل إحدى القفزات المهمة في الأدب الفلسطيني، والتحرر من الإغراق في الهم الخاص على أهمية ذلك، إلى التحليق في فضاء إنساني أبعد، كما أنها تعد تطورا في البناء الفني المسرحي، من حيث التّمكّن من الموائمة بين فكر فلسفي منتج في نص مسرحي وإمكانية تحويله إلى مشاهد متحركة مباشرة على خشبة مسرح. ويأتي ذلك في إطار توصيل الفكر والأدب إلى المتلقين مباشرة.

كلمات دلالية

اقرأ المزيد

تحقيقات وتقارير

ثقافة وفن

مساحة اعلانية

آراء ومقالات

منوعات