الجمعة 29 مارس 2024

  • أسعار العملات
    العملة سعر الشراء سعر البيع
    الدولار الامـريكي 3.78 3.8
    الدينــار الأردنــــي 5.35 5.37
    الـــيــــــــــــــــــــــــورو 3.04 4.06
    الجـنيـه المـصــري 0.1 0.12

جماليات سرد المنفى.. الرواية الفلسطينية نموذجا

  • 18:19 PM

  • 2019-08-16

 السيد نجم*:

صدرت أول رواية فلسطينية بعد النكبة عام 1955م (رواية "صراخ في ليل طويل/ جبرا إبراهيم جبرا).. وهو ما يعبر عن صدمة المبدع الفلسطيني. وربما الفترة التالية لم تكشف عن تجاوز تلك الصدمة.. ففى الخمسينيات تم نشرثلاث روايات: "المتسلل/ توفيق معمر", "ثمن النصر/ مجهول", "بتهون/ توفيق معمر"! بينما مع بداية معارك1967م، بكل ما تحمله من مشاهد عسكرية، بدت حافزاً جلياً لشحذ همم المبدع الفلسطيني، فى كافة مجالات الإبداع.

بقي المبدع المنفى الفلسطيني متعلقاً بأرضه وقضيته، وهو ما أفرز إبداعاً له ملامحه وخصائصه الفنية الخاصة، وراج مصطلح "السرد المنفى". تعد الروائية "فدوى فؤاد" واحدة من قافلة طويلة من مبدعي المنفى الفلسطينيين، هؤلاء الذين وشاركوا بقلمهم بلا ضجيج.

وقد راج من قبل عطاء لكل من: فنان الكاريكاتير "ناجي العلي" المهاجر إلى بعض البلدان حتى بلغ لندن وأغتيل هناك، والروائي "غسان كنفاني" المهاجر إلى دمشق وبيروت ثم أغتيل.. و"جبرا إبراهيم جبرا" فى العراق، ثم هناك الشاعر "معين بسيسو" وغيرهم.

خلال الستينيات والسبعينات كانت بداية منجز إبداعى فلسطينى، إحتفى به النقد والإعلام، ففى الشعر كان "محمود درويش"، "مريد البرغوثى"، "عزالدين المناصرة"، و"غسان زقطان".. وفى السرد "غسان كنفانى"، "يحيى يخلف"، "محمود شقير"، و"سحر خليفة" .. وغيرهم.

ما زال الإبداع المنفى الفلسطيني ممتداً حتى اليوم، ولا محل للسؤال عن الحاجة إلى مقارنته بأعمال الأسماء السابقة، نظراً لعدة عوامل إكتنفت القضية الفلسطينية ذاتها، ليبقى هذا الإبداع الصامد، معبراً عن الواقع المعاش.. وهو ما يلزم رصده والتوقف معه.

هناك بعض الرؤى التى عبرت عن نفسها بالسؤال عن القيمة الفنية لهذا المنتج الإبداعى المنفى الفلسطينى (بعيداً عمن راجوا فى الستينيات والسبعينيات)، خصوصاً مع جنس الرواية. والذى عبر عنه الناقد "د.فيصل دراج" بالسؤال: 
"لماذا لم يعد الأدب الفلسطيني كما كان؟".. بما يعنى أين الإبداع الجيد؟.. فهو لا يرى أن يكون "المنفى" مبرراً لإبداع غير تحريضي ولا يتضمن الحفاظ على الهوية، وبناء الذات وبطولة البقاء.. بينما واقع الحال يشي بمنجز سردي لافت (رواية "غواية الحرب" للروائية الفلسطينية "فدوى فؤاد"، نموذجا لجماليات سرد المنفي:

** مقاربة شكلية:
.. عنوان الرواية "غواية الحرب"
.. تقع الرواية فى 1047 صفحة من القطع المتوسط.
.. نشرت عام 2005م
.. الإهداء إلى: "فلسطين الأرض الكنعانية، أرضى الحبيبة ووطنى الحبيب"، وإلى: "داعية السلام والحرية والعدل "رايتشل كورى" التى أتت إلى فلسطين لتموت شهيدة تحت أسنان جرافة الجيش الإسرائيلى".
.. مقدمة (من ص7 إلى ص12)

فسرت المعاجم كلمة "غواية" ب"أمعن فى الضلال" و"إستمالة فى الغواية".. أية غواية للحرب تتحدث عنها "فدوى فؤاد" فى عملها الروائى الطويل؟! حيث كتبت أحداث الرواية بعد أحداث الإنتفاضة الثانية، والمتغيرات للقضية الفلسطينية.

.. هناك الإهداء المعبر عن التوجه الوطنى والإنتماء، فيما أضاف الإهداء دعوة إلى تكريم شخصية "رايتشل كورى". (رايتشيل كوري (مواليد 10 ابريل 1979م)، توفيت فى 16 مارس 2003م، عن 23سنة بمنطقة رفح، قطاع غزة.. وهى مواطنة أمريكية، عضو "حركة التضامن العالمية". وقد قتلت أثناء محاولتها التصدي لجرافة تابعة لجيش الدفاع الإسرائيلي، أثناء أحداث الإنتفاضة الثانية.. عندما حاولت منع الجرافة من هدم بيتين للفلسطينيين!)

كما تعد هذه الرواية من أضخم الروايات العربية من حيث عدد الصفحات. فلم يعتد القاريء العربى على قراءة الكتب، خصوصاً الإبداعية منها، على هذا الحجم، ومع ذلك يبقى العمل السردى وحده بما يتضمنه هو المبرر لقبول هذا الحجم.

.. لعل "المقدمة" تقدم تفسيراً أولياً، ومبررات هذا العمل السردى الطويل.. تقول الكاتبة فى مقدمتها:
"أكتب فى ظروف قاسية، ولا أستطيع أن أدجن قلمى، وأن أكتب رواية تنبض بخلجات الحياة، ولكن فى عمق الحرب وشراستها، حيث تصبح الحياة مستحيلة.."
لم تكتف الروائية بعنوان الرواية "غواية الحرب"، كى يتعرف القارىء على جوهر متن السرد الروائى، بل حرصت على تأكيد المعنى ومبررات هذا التناول: 
"فى هذا الزمن الصاخب، أكتب الرواية وأخاف.. زمن يسرقون فيه الدول، ويقيمون دولا على جثث أصحابها... أدعو الجرم الأرضى، لأن يعود إلى إنسانيته، لقد جاء القرن الجديد "الواحد والعشرين"، فإذا القيم الأخلاقية فى خطر" ص13

ربما بسر كل ما سبق يبدو عنوان الرواية "غواية الحرب" مبرراً، إلا أن السؤال المتجدد: 
"أية حرب؟" وهو ما قد تتناوله الرواية من خلال الشخصيات والأحداث.
**عبور كاشف: "وجد شاهين" صحفية شابة فلسطينية من مدينة "خان يونس". تبدو رومانسية خلوقة. تتعرض للكثير من المواقف المؤلفة، لها ولغيرها، أمام الحواجز الاسرائيلية، حتى تعرضت لأبخرة قنابل الغازات الإسرائيلية، وتصاب بمرض فى الرئة، فتشعر بالكثير من البغضاء من العدو الصهيونى وعدم الرغبة فى الحياة.

"غيث الكنعانى" شاب مناضل، يرى أن تنمية الإرادة الإنسانية هو أرقى أهداف الإبداع الإنسانى. ويقع فى مأزق صراع الحب مع الواجب.. فقد أحب "وجد" وأحبته. ومعه تحولت الحبيبة عن بغض الحياة إلى مزيد من التعلق بها. بإستشهاد "غيث" تحولت "وجد" إلى مهمة توظيف الحياة من أجل مهمة أكبر، والمزيد من العشق للوطن الأكبر.

"عروبة"، صديقة وجد وصحفية- "مجد" شقيقة وجد مهاجرة، مع أم وجد وغيرهن من الشخصيات التى تبدو أنماط إنسانية لأهل فلسطين.

ربما يعد العبور السريع لخط محوري فى الرواية، يضم أول كلمة إلى آخر كلمة فيها.. حيث تقول كلماتها الأولى: "عالم آخر وراء بحرك يا وطنى، أما نحن الفلسطينيين فنعيش حياة لا تشبه أى حياة.." ص18
وفى خاتمة الرواية تقول: "أتذكرت يا "غيث"، أنت الرجل الذى جعلنى أعيش... الذى علمنى أن زمن الحرية لم ينقض، وإن للحرية من أدوات العصر، آه أيها الطروادى الكنعانى، أنت معنى الحرية"ص1047

.. تقع الرواية فى خمسة فصول: "يا وحدنا".. "كينونتى".. "الحلم الأكبر والصبار الفقير" .. "عوليسية فلسطينية".. و"رؤيا سماوية خضراء. كما يتضمن كل فصل العديد من العناوين الجانبية غير المرقمة، فضلت الكاتبة أن يكون لكل تناول جديد لمحاور الفصل العنوان الذى يعبر عما يتضمنه. واستهلت الكاتبة كل فصل من الفصول بكلمات شعرية ومأثورات شعبية، فيما عدا الفصل الرابع.

: إستهلت الفصل الأول بكلمات الشاعر "فكتور نصر الله سروجى" 
(اليوم/ ترقص سالومى/ فى البيت الأبيض/ والأوغاد/ تتراقص فى لحن وثنى/ تتبادل أنخاب الأسياد/ تقلب خارطة العالم/ تطلب رأس العالم/ اللعنة/ ...)

: إستهلت الفصل الثانى بكلمات الشاعرين.. "أمل دنقل" (أيها الواقفون على حافة المذبحة/ إشهروا الأسلحة/ سقط الموت، وإنفرط القلب كالمسبحة/ والدم إنساب فوق الوشاح!/ المنازل أضرحة/ والزنازين أضرحة/ فأرفعوا الأسلحة...)
والشاعر "محمود درويش" 
(خائفا من حليب على شفة التين، من لغتى خائفا، من هواء
يمشط صفصافة، خائفا
خائفا من وضوح الزمان للكثيف، ومن حاضر لم يعد
حاضرا"

: إستهلت الفصل الثالث بكلمات الشاعر السعودى "باشراحيل"
"وليالى الظلم غدا ترحل سيكون العصر إذن أجمل"

: إستهلت الفصل الخامس بأغنية شعبية فلسطينية لفرقة الراب
(من كتر ما إغتصبوا الناس العربية/ حبلت ولد إسمه عملية
إنفجارية/ وهين ناديتينا/ إرهابية/ ضربتنى وبكيت/ سبقتنى
واشتكيت/ ولما اتذكرت إنك بديت/ نطيت وحكيت/ ما انتوا
بتخلو ولاد صغار/ يرموا حجار ما لهمش أهل يضربوهم بالدار)

.. ترى هل عمدت الروائية بتلك الإستهلالات تهيئة القاريء لأحداثها؟ .. بلا. 
يستشعر القاريء قدر المؤامرة التى تحاك مع الفصل الأول.. ثم بالخوف وضرورة المواجهة مع الفصل الثانى.. وها هى مشاعر الأمل للهدف الأكبر مع الفصل الثالث.. وتترك لنا الكاتبة الفصل الرابع بأحداثة المتفاعلة بلا تمهيد، الأحداث وحدها تكفي.. كما تعمد إلى إختيار ثيمة شعبية معبرة على أفاعيل المواجهة التى بدأت، تأكيداً لمعنى الإنتماء بالفصل الخامس.

** متن النص
مع مطالعة الصفحات الأولى سرعان ما يبين للقاريء مجموعة من الملاحظات التى تبدو جلية فى مجمل الفصول الخمسة، تلك التى تشير إلى محاولة الكاتبة نحو كتابة (سفر توثيقى) حول القضية الفلسطينية، خلال فترة من أهم وأخطر الفترات. وهو ما تبدى فى عدد من التضمينات العمدية الشعرية والتوثيقية والسردية، أمثلة منها تضمنت الفصول الآتى:

أولا: قصائد شعرية للشعراء.. "فكتور نصر الله سروجى"، "عبدالرحمن الابنودى"، "محمود عبدالرحيم"، "كرمل العباس" ، "محمود درويش"، "أمل دنقل"، "جوزيف كونراد"، "جاك لاكايير"، "سركون بولص"، "عبدالرحمن شكرى"، نزيه أبوعفش"، "باشراحيل"، "ابراهيم طوقان"، "دينا غزال"، "عبدالرحمن محمود"، "هارون هاشم رشيد".
.. ضمن ما تم رصدة عن أشعار "الأبنودى":
(أنا ثورة... وسيبنالكوا الدولة
بتقولى لا قوة ولا حولة
أهو لينا شرف المحاولة)
.. ضمن ما تم رصده من أشعار غير مباشرة، يقول "جاك لاكاريير":
(الأوراق هى أمل الجذور / الأزهار أملا لأغصان
البراعم أمل الفنان / أما نحن فأى نسغ لأملنا 
التغريد هو أمل العصفور / الهدير أمل المياه
الهمس أمل الرياح / أما نحن فأى نشيد لألمنا؟) ص217 
.. يقول "بودلير"
(لا نعانى إلا عندما نجرع السم)ص526

كثيراً ما تتوافر أكثر من قصيدة للشاعر الواحد، كما يلاحظ أن بعض هؤلاء الشعراء من كتب عن القضية الفلسطينية مباشرة، ومنهم من كانت قصائده تحمل قيمة دالة مقاومية عامة، خصوصاً الشعراء الأجانب. كما تلاحظ بعض القصائد ترد على لسان إحدى الشخصيات المحورية فى النص، دون الإشارة إلى الشاعر.

تعد ظاهرة تضمين العمل السردى لقصائد الشعر، من الظواهر التراثية، وهو ما قد يثير التساؤل حول توجه الروائية إلى بناء سردى تراثى بالكامل من عدمه؟ وهو ما لم يلحظه القارىء، نظراً لتوافر ظواهر أخرى مثل توظيف اللغة الفصحى المعاصرة، بل واللهجة المحلية أحياناً، سواء فى تشكيل السرد أو الحوار المباشر بين شخصين.. وغيرها .

ثانيا: رصد الأغنيات التى تتناول القضية الفلسطينية والقدس..
"وطنى حبيبى الوطن الأكبر"، "باسم الله/ الله أكبر باسم الله"، "يا ربوع بلادى/ يا أحب الربوع"، "أنا لا أنساك فلسطين"، "لأجلك يا مدينة الصلاة أصلى"، "مريت بالشوارع/ شوارع القدس العتيقة"، "يا زار عين الورد/ فى جنينة الاشواك"،.. وغيرها. 
لعل أغنيات المطربة "فيروز" نالت القسط الأكبر، ومنها: (سندق ندق الأسوار/ نستلهم ذاك الغار/ ونعيد الى الدار الدار/ نمحو بالنار النار/ فلتسطع أبواب.. أجراس تقرع/..) ص47
غالباً ما ترد الأغنيات للتعبير عن الحالة المزاجية للشخصية، وتوافر هذه الثيمة فى العمل، يكشف عن رغبة الكاتبة لإكتساب عاطفة القارىء نحو هدف بعيد/ قريب، كما جاء توظيف الأشعار.

ثالثا: رصد توثيقى لمقولات البعض..
.. يقول "شارون" وزير الدفاع الاسرائيلي فترة الانتفاضة الثانية، ثم أصبح رئيساً للوزراء): 
"أمته جوعاً وأقتله"ص34.. "أقتل الفلسطينى، ثم أقتله، ثم أقتله"56ص، 
.. يقول "جان جاك روسو" (مفكر فرنسى مهد للثورة الفرنسية): "إن مصيبة المجتمع الكبرى هى اللامساواة، وأقول إن مصيبة العالم كله هى اللامساواة" ص71
.. يقول "فوكو": "عالم لم يعد يحتمل السرور، فهرب إلى العنف"ص645
.. يقول "جبرا إبراهيم جبرا": "إن جمال فلسطين، والألم الذى يتعرض له الفلسطينى، يصنع منه شاعراً بالفطرة.."ص673

تسعى الكاتبة لتوجيه كل الوسائل الممكنة لتحقيق هدفها، فلا تتردد فى رصد المقولات الخطابية والمأثورة، عن عدو كان أو من غيره، لتبرير وجهة نظرها الفنية.

رابعا: توظيف فن الرسائل.. 
تعد ثيمة توظيف الرسائل من الأنماط السردية القديمة، وقد عرفتها الرواية الغربية فى القرن ال18، كما عرفتها العربية أولا مع رواية "ماجدولين" ل"رفاعة رافع الطهطاوى" فى بدايات القرن العشرين. ومع قلة وربما ندرة كتابة رواية الرسائل، بقيت الرسائل وسيلة ناجحة وفاعلة مع المنجز الروائى المعاصر. وهو ما تلاحظ مع رواية "غواية الحرب".

.. قدمت الروائية هذا النمط فى سردها الروائى من خلال فكرة التواصل مع أختها المهاجرة "مجد"، وكانت رسالتها الأولى إلى "وجد": "حبيبتى مجد، لا تنئى عنى بمشاعرك، أنا أعيش معك، ومع أمى لحظة بلحظة... الرئيس "بوش" شطب حق العودة، هذا البوش لا يعرف مدى ارتباط الفلسطينى بأرضه..."ص449

ربما لم توظف الكاتبة هذة الثيمة إلا من خلال التفاعل مع شخصية الأخت المهاجرة إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وبتلك الشخصية الفلسطينية كشفت الكاتبة الجانب المعتم للمجتمع الامريكى، وكذب الشعارات الرنانة مثل "الديمقراطية" و"حقوق الانسان".. بل وعرضت الكاتبة لشخصية رئيسها "بوش" وبيان قدر العنصرية والتعصب ضد الحقوق الفلسطية، وهو ما تجلى فيما تجلى برفضة مبدأ "حق عودة اللاجئيين" للفلسطينين.

بدت إحدى الرسائل راصدة لمشاعر الفلسطينى المنفى، وهو ما تمثل فى رسالة "مجد" تقول: "حبيبتى وجد.. أشتاق لك كثيرا ولأمى الحبيبة، لقد صنعت حياتى هنا، لكننى غير قادرة على الاستمرارية، حبل سرى بين الانسان ووطنه... صوت الاغتراب، صوت الغربة والوحشة، أعتقد بأننى مصابة بنوستالجيا مزمنة، أجل هو مرض الهجرة المزمن..."ص765

كما تكشف "مجد" فى إحدى الرسائل إلى "وجد" عن بعض معاناة العربى فى المهجر: "إننا هنا فى كاليفورنيا –نحن العرب- بالكاد نحصل على وظائف والذى يحصل على وظيفة يعد محظوظا، أحاول أن أسعد أطفالى، أحاول ألا أبدو كئيبة أمامهم.."ص818

خامسا: التوثيق التاريخى .. لعل نمط "التوثيق" فى فن الرواية يعود إلى رواج الرواية التسجيلية فى الاتحاد السوفيتى القديم بعد الحرب العالمية الأولى بالقرن الماضى. وقد فضل البعض توظيف هذا التناول السردى، خصوصاً ببعض الروايات التى تصنف بالروايات السياسية.. وإن وظفها البعض فى غير هدا النمط من الروايات.

جاء "التوثيق" فى تلك الرواية "غواية الحرب" على شكل تحليلي لوقائع محددة حدثت بالفعل وأعتبرت حدثاً تاريخياً، إلا أن الكاتبة قدمتها لتبرير رؤيتها ووجهة نظرها فى الكثير من الأحداث السياسية والعسكرية وغيرها.

.. (عروبة- صديقة "وجد": لماذا لا تتبنى الأمم قراراً بتعويض الفلسطينى الذى تجرف أرضه أو يهدم منزله ... إسرائيل كلها قائمة على الإغتصاب...) ص241

.. الصهيونى يخاطب الفلسطينى فى شعره يقول:
(أأخذ أرضك وأعضك
أأخذ أرضك وأطردك منها
أسرقتك وأقتلتك)ص349

.. تقول "عروبة": "الغرب هو الذى أرسل لنا الصهاينة، متسللين إلى بلادنا، لقد أراد الغرب التخلص من اليهود، فصدروهم لنا.."
ترد "وجد": "أرفض مقولة صراع الحضارات لصامويل هنتنغتون، إنه صراع أديان مهلك، يتنافى مع ما يدعيه الغرب من حرية.."ص635

.. تقول "وجد": "الإنتفاضة الثانية كادت تنتصر، لولا الخيانات الفلسطينية والخيانات العربية ، أنت وأمثالك يا "غيث" – حبيب وجد- تتبعون النظام القيمى التحررى، الحق لا يعلى عليه"ص703

سادسا: توظيف التراث الشعبى..
.. هناك أغنية شعبية قديمة رددتها الأم (أم مجد): (أذكر يوما كنت بيافا/ خبرنا خبر عن يافا/ وشراعى فى مينا يافا/ فجرا أقلعنا/ هل كان الصيد وفيرا/ وغنمنا منه كثيرا/ قل من صبح لمساء/ نلهو بغيوم الماء..)ص132

.. فلما سافر "غيث" إلى فرنسا مدافعاً عن حق الثورة والإنتفاضة، مع فضح الأفاعيل الصهيونية، نجح. ما أغراه إلى قضاء المزيد من الوقت والعمل، وهو ما زاد من شوق "وجد" الحبيبة، وذات مساء جلست فى الشرفة، وكأنها تنتظره يأتى غفلة، ولكنها سمعت من يغنى فى الشارع، الصغار يغنون للرمان:
(أكبر وأدخل.. يا رمان/ على بطن الحبلة.. يا رمان/
رمان مليسى.. يا رمان/ كلوا على كيسى.. يا رمان)ص939

.. أما وقد أستشهد "غيث" وقد ترك الحبيبة/الزوجة مع "غيث الصغير" أو جنينه فى بطنها، فتصاب بالعلل الجسدية والنفسية.. مع أول محاولة لها للخروج من أزمتها، تشاهد عرضا لفرقة الفنون الشعبية الفلسطينية "الراب"، ورصدت الغنوة "رتاتات" وهى كلمة تعنى "صوت إطلاق النار"، تقول: (تقول لى "رتاتات" ايش صار/ كمان عربى انطخ.. رتاتات/ أجدت الحكومة إفلخ وتقول لى يعنى اهرب/ إفلخ من الحكومة وايلا/ من شعبى.. وين ما أطلع فيه طلق جنبى) ص957

سابعا: مناقشة قضايا عامة وثقافية.. 
.. "لماذا العرب صامتون؟"
مع كل ما كان من قتل للأطفال الصغار، حتى منعوا من الذهاب إلى مدارسهم، بل تم قتل الأجنة فى البطون، وشعر الفلسطينى بالعزلة، وهو ما عبر عنه الحوار الدائر بين "وجد" وصديقتها الصحفية أيضا بجريدة الشعب "عروبة"
(عروبة: ما هذا الشارونى الشرير، شرع فى بناء الجدار العنصرى..
وجد: أتعجب العرب صامتون، لماذا يسكت العرب؟ ولماذا يسكت العالم عن الظلم الذى نتعرض له؟
عروبة: لكن النضال الفلسطينى مستمر..)ص38

.. "إننا موبؤون بالغرب القوى، الذي لا يرحم"
فى حوار بين "وجد" و"عربية" يدور النقاش حول صدور كتاب بعنوان "إنهم عرب سيئون"
ويتعاتبان معاً، تعبيراً عن ندمهما على حب العرب لهوليود وحبهم للأفلام الأمريكية، بل هناك من العرب من عرف الثقافة الغربية بأكثر من الغربيين أنفسهم. ومع ذلك فالعرب عندهم ظواهرهم الثقافية من أمثال "نجيب محفوظ" و"درويش" و"زويل".. وغيرهم. 
فقالت "وجد" : "إننا موبؤون بالغرب القوى، الذى لا يرحم". وعلقت عروبة: "أخشى أن أمريكا واسرائيل يريدون أن ينمحى العرب من على الأرض"ص66

.. "الاستيلاء على خيرات العراق، وعلى نفطه ويدعى الاستعمار إنه العمار، إنها كلمة كاذبه منذ الأزل إلى الآن"ص345

.. يقول "غيث": "سئمت الفلسفة، ومقاهى الشانزليزيه، لقد زرت الكثير من دول العالم... وحده وطنى هو الذى يمنحنى السعادة... أشعر بسعادتى وكينونتى فى وطنى"ص581

.. ترد "وجد" على مقولة "أدونيس": "بحر ميت فى أرض ميتة.." 
أقول لمن يرى فينا أمة ميتة: "لقد تغربتم فى الغرب وإستحليتم وإستعذبتم تجريح أنفسكم.. "كفى يا أدونيس ومن على شاكلته، كفى وكفوا عنا نصائحكم.." ص441

.. تقول "وجد": "هناك دعوة إلى الانحلال، باسم التقدم والرقى... إن فيلم "سهر الليالى" دعوة الى الانحلال باسم التحديث..."
عروبة: "بعد أن أعلنت الولايات المتحدة إننا متخلفون، بدلا من أن نطور المناهج، ونهتم بالبحث العلمى، تكاثرت دعوات الانحلال..."ص457

.. تقول وجد: "حتى عرب48 إسرائيل، تلوح بإمكانية التخلص منهم، إنها مؤامرة لتحويل فلسطين إلى إسرائيل، إنهم يريدون القضاء تماما على الشعب الفلسطينى" ص525

.. تقول "عروبة": "الأزمة الآن أزمة قراءة، المؤلفون يكتبون، والقراء لا يقرأون.
ترد "وجد": "الناس الآن تكتفى بالتليفزيون، والانترنت"
يعلق "غيث": هذا لا يغنى عن الكتاب، فالكتاب للمثقف، والتليفزيون للعامة"ص721

ثامنا: عرض لصور القهر الصهيونى.. تتشكل "المقاومة" فى سرد الرواية لقصص وحكايات عن الشعب الفلسطيني.. عذابه وألمه وهو في وطنه، تلك القصص والصور والأحداث التي تبدو وكأنها بلا نهاية.. حيث الفلسطيني البسيط في المخيمات والذي ذاق العذاب والتشرد، وإكتسب خبرة الدفاع عن أرضه.. بينما اليهودي المدعم بالمال وببطش القوة، لكنه يشعر أن المال والقوة سيتلاشيان مهما طال الزمن.. "أمسك بسلسلة "عروبة" التى رسم عليها المسجد الأقصى، يذكرنى الأقصى بطيوف الأمل.."ص254

تاسعا: توظيف الحوار لاثراء السرد.. لعب الحوار فى هذه الرواية دورا بارزا، مرة لسرد الحوادث، ومرة لتفسير الأحداث، ومرة للتعبير عن المشاعر، وحتى حوار الأحبة لا يخلو من مفاهيم المقاومة، وهى المقاومة المشروعة من أجل السلام:
(وجد: لماذا لا يتعايش البشر فى سلام؟
غيث: لعل إختلاف الجنس البشرى، وإختلاف الديانات، مدعاة لذلك..)ص640

.. أما ما يلفت إنتباه القاريء "الحوار الداخلي" الذى وظفته الكاتبة كثيراً، وكان منفذاً لعرض الكثير من الآراء والمناجاة، كما كان فى رثائها للحبيب "غيث" بعد إستشهاده:
"هل أستطيع أن أنساك يا غيث؟ هل أستطيع أن أنسى تعاويذ الحب وترانيمه؟ هل أنسى تجاسدك وشهويتك وسحرك؟ هل تتحول كل هذا السحر إلى مجرد ماضى؟ ولأصبح زوجة البطل وزوجة الشهيد وزوجة الرمز؟ وليتحول كل هذا التراشق الجسدى إلى روحانية خالصة، هل يصبح التجاسد مجرد ذكرى؟"ص978

عاشرا: مقولات ناقدة
..عروبة: "السلطويون ينالون المناصب تنفيعا، لقد أصبح الوطن مزرعة يتقاسمونها" ص73
.. وجد: "المنتفضون قادرون، والمنتفضون صامدون، ولكن من الذى أنهى الانتفاضة الأولى، أليس هو إتفاق "أوسلو".ص78
"أقتل يا شارون، فالحرب غوايتك"ص103
"لو كانوا يحبون فلسطين لما قتلوا أشجارها، لو كانوا يحبون الأرض، ما كان هان عليهم أن يقتلوا الزيتون"
"إنه القتل الافتضاحى للشعب الأعزل"ص117
"الدم يتلألأ تحت شمسك يا وطنى"ص161
"إننى أتقيأ الاحتلال ومراسيمه اليومية.. مهما فعلتم أيها الصهاينة، لن تتشظى هويتى" ص203 
"يريدون أن ينسحبوا من غزة، ليجعلوه سجنا حقيقيا محاطا بالوجود الإسرائيلى، لقهر مليون ونصف من الفلسطينيين.." ص748
"إننا نتشكل من الإحتراق، وننبثق من جديد" ص757

الحادى عشر: مشاهد فلسطينية "إنتماء".. "أخوات الشهيد يلبسن الأخضر، نساء عددهن كبير، جلسن على الأرض، لم يوجد إلا طاولة واحدة، جلست أم الشهيد على الطاولة... قالت الأم: "الشهيد على إبنى لم يتزوج، اليوم هو عرس على كنعان، النساء يزغردن على الشهيد "على كنعان"ص339
.. بعد حضور "غيث" الى منزل "وجد" وخطبها، عهدت وجد لنفسها أن تسير على طريقه النضالى، وأن تفعل مثلما يفعل، حتى عندما يغنى "أغنية الزيتون:"
(آه، سأغرس شجرة زيتون براقة تلمع ثمارها المدهنة الخضراء الخصبة
سأرقص حولها
وعندما تكبر الشجرة سأسند ظهرى عليها)ص669

.. تقول "وجد" فى ختام كلماتها، فقد وظفت الروائية ضمير المتكلم مع السطر الأول إلى السطر الأخير، حيث قالت:
(آه أتذكرك يا غيث، أنت الرجل الذى جعلنى أعيش، وأشهد أننى عشت الحب، وعرفته مع الكنعانى العوليسى الطروادى! الذى علمنى أن زمن الحرية لم ينقض، وإن الحرية من أدوات العصر، آه أيها الطروادى الكنعانى، أنت معنى الحرية)ص1047

*********

** قراءة عامة للرواية
يبدو وكأن الروائية تسعى لتشييد نصاً يقدم للمستقبل أدباً تأريخياً للقضية الفلسطية خلال الفترة المصاحبة للانتفاضة الثانية "إنتفاضة القدس" التى بدأت عام 2000م بعد إقتحام "شارون" للمسجد الأقصى بالقدس، توطيئة لإقتحامه من العامة والخاصة من الاسرائيليين، وما تحقق فيما بعد.. الأمر الذى آثار غضب الفلسطينيين والعرب والمسلمين، بينما تحمل أهل القدس وحدهم عبء الدفاع عنه!

الأمر الذى دفع الروائية لإضفاء العديد من المحاور، حول خط سردى بسيط يسمح للراوى (الراوية "مجد"/الروائية) بتشييد هذا السفر الفلسطينى، يحفظ لذاكرة الأجيال القادمة صور البطولة والصمود للفلسطينى على أرضه. وهو ما تجلى فى العديد من الملامح الفنية والتأريخية فى رواية "غواية الحرب".. وذلك من خلال الوسائل:

: توثيق الأحداث اليومية والمعاشة، وصور القهر وما يحدث أمام الحواجز.

: بث روح النضال وتمجيدها.. من خلال نماذج مثل "غيث".
: تدور أحداث الرواية بمدينة "خان يونس"، وهو ما لم يعيق تناول الأحداث مع قضية القدس
: تبدو الرواية توثيقية تسجيلية، وهو ما يكسبها قيمة مضافة.. 
: رصدت الرواية الأشعار والأغانى والشعارات المعبرة عن القناعات الأيدبولوجية.
: ترصد الأحداث مظاهر الإنتفاضة الثانية والقدس، والدور البطولى للطفل الفلسطيني.
: الروائي السارد العليم، هو من سمات التناول الفنى للرواية.
: تعايش القارئ مع وقائع حقيقية، مما ساعد على تعاطفه مع أحداثها

*كيف بدت صورة البطل والبطولة في تلك الرواية؟
: توظيف شخصية "وجد" الصحفية الشابة، بحيث بدت شخصيتها ومهنتها مبرراً لعرض الكثير من الأحداث والتعليق عليها، وتسجيل الآراء المختلفة.
: فكرة الأجيال الجديدة الصامدة والمتواصلة من أجل التحرر.
: لعل شخصية "عروبة" صديقة "وجد"، تعبر عن البعد الأقل إنفعالا وليس الأقل وطنية.
: الخاتمة بالفصل الخامس "رؤيا سماوية خضراء"، تبرز فكرة تواصل النضال عبر الأجيال.
: لعل مفهوم "البطل" و"البطولة" من المفاهيم المعقدة، بينما جاء المعنى فى الرواية من خلال رصد صور الأحداث الدامية أمام الحواجز الاسرائيليية.

* ملامح السرد فى الرواية: 
: السرد التلقائي الصريح وأحيانا المباشر.. تقترب روح التناول والعاطفة أقرب إلى أدب الإعتراف أحيانا.. التصوير الحميم والعاطفي.. النظرة الشمولية للكاتب.
: تصوير ووصف وقائع نضالية/مقاومة..
: تصوير معاناة الحياة اليومية في ظل الانتفاضة.. 
: التناول الحصرى للعديد من الآراء والأفكار.. 
: الرواية تقدم حلولا.. سواء بممارسة المقاومة، أو الصمود للقمع، أو بتبني أيديولوجيا ما.. وهو ما يكشف عن جانب البحث عن حل ما أمام مشكلة لم تنته بعد.
لم يعد الكاتب الفلسطيني حريصاً على تلك البكائيات التي شاعت في شعره وقصصه منذ 1948م.. حتى أن الدارسين رصدوا إستحضار موضوع "سقوط الأندلس" في الشعر الفلسطيني قبل الانتفاضة، وكان من الظواهر الفنية في الأدب الفلسطيني قبل الانتفاضة.

** خاتمة
اذا كان الابداع الفلسطينى فى الستينيات يكشف "البحث عن طريق ما للخلاص"، فتلك الرواية تكشف عن "العثور على الذات الفاعلة والمقاومة".. الفعل والتفاعل.

*"عالم الكتاب" العدد 33 ..:

كلمات دلالية

اقرأ المزيد

تحقيقات وتقارير

ثقافة وفن

مساحة اعلانية

آراء ومقالات

منوعات