الجمعة 29 مارس 2024

  • أسعار العملات
    العملة سعر الشراء سعر البيع
    الدولار الامـريكي 3.78 3.8
    الدينــار الأردنــــي 5.35 5.37
    الـــيــــــــــــــــــــــــورو 3.04 4.06
    الجـنيـه المـصــري 0.1 0.12

قراءة نقدية لنموذج إنساني مغاير

تجليات تراتبية في رحلة السالكين للشاعر الفلسطيني/ موسى أبو كرش

  • 22:30 PM

  • 2015-01-04

أمل فؤاد عبيد: 


خارج أطواق النفس تغلب على الروح اشتهاء المسافات .. ذهابا وإيابا .. خلودا يتمركز بؤرة الشعور .. هناك حيث لا أسوار تعجزها .. أو تعاندها .. تستقيم معها الأشياء أنغاما منسجة .. حيث يتفردها إحساس ما بالغلبة .. تحاور الكون لغات غير رقمية .. أثيرية .. وكأنها تعتلي أجنحة من النور .. وتلتئم أطيافها ألوانا ربيعية .. تبحث عن واحديتها وواحدها .. وتقتسم ذراتها في آن خلجات تعتلي عرش الإبداع حركة تطوق اردية السكون .. وتنفعل بالتوحيد كما وكأنها تنشق عن حقيقتها الأبدية .. وتتلبس خلودها .. إشراقا أبديا ً .. تستقيم السقيا .. والرؤى انبعاثا بلا نهاية .. تتخلق عبر الذات .. فكرة .. بل أفكار .. مكتملة الصفاء والاحسان .. وتتلمس طريق الظلمة .. أنوار .. حيث لا انتهاء للرجاء ... 


في البدء كان العنوان دلالة , تلك هي التجليات التراتبية في رحلة السالكين نجدها في قصيدة للشاعر الفلسطيني موسى أبو كرش ذلك الابتهال الخفي بواقع يتخفى بقدر ما يتكشف عبر آليات تحولات مجدولة لواقع مهزوم ومأزوم ورغم ذلك تفاجئنا القصائد هنا وهناك بنزق التمرد على مادية الواقع ومحاولات الاحتفال الباطني بمدرجات الروح ومسالكها فوق الفوق وأيضا محاولة لاستقراء واقع العابرين أفق هذه الكونية الصغيرة شديدة الخصوصية حيث تتحول لدينا اللغة من وإلى لا حدود ولا أقنعة .. استطاع الشاعر ان يأخذنا في اندياحاته معابر جديدة .. يكشف فيها عن عمق التأمل في لحظة وهج يتعالى على السخط والمرارة .. على اعتبار ان الكاتب فلسطيني الهوية يبقى مأزوما بحدود واقعيته الخانقة والمهزومة في آن .. إلا أن عالم التفاني يبقى عالما صاخبا بصوته العالي لأنه في الحقيقة يبقى هناك دوما ما لوجوده عبق وحضور مميز ومتفرد وله الغلبة في امتلاك الأصدية .. يقول الشاعر في مطلع القصيدة المنفردة

 :
تنتابك الرؤى 

حمائم ترف في فضاء اكتمالك 

فانتهزها واستعذ بالله 

من يقين اعتراك 

حتى وان خامرتك الظنون

رحلة الشوق للمشوق اجتراح

خفق ورفيف وابتهال ووجع

ظمأ لا يطفئه ماء

يدخلنا الشاعر عالم التفاضل في الرؤى .. واستكشاف الحقيقة بداية .. هي النهاية .. فالرؤى عالم الوصل الأول الذي يبدأه السالك المراد .. ففيها تعلن الصور عن شكلها الحقيقي .. وتتخفى علامات الرؤى ببصيرة تبدأ في الإعلان عن نفسها بداية .. هو الحضور الأول والكاف في ذاته كدلالة خلق ومنتهى في آن .. فبين الرؤى والاكتمال نزق الطريق والمسافة .. هي المرحلة والرحلة في آن .. بداية يقين يحقق جدواه في رؤاه ومن هنا تصبح رحلة الشوق للمشوق عملية اجتراح ينتابها الألم والخفقان والرفيف كما الابتهال كما الوجع المغلف شقوق الاجتراح .. هنا علامات النبالة تصبح عنوان للوجع والألم بمذاقه الخفي .. وملحمة الوجع الباطني يصبح للشوق معنى وغاية هو الالتحام بالمشوق .. هذه البداية المعلنة عن نفسها بنفسها تتحمل في ذات الوقت خاتمة الرحلة فاليقين كان مبتدأ كما هو تحصيل خاتمة .. حتى يكون في ذاته ظمأ لا يطفئه ماء .. اليقين لا يطفأ إلا باليقين .. يقين يغالب يقين في حالة من التحام الوجد والشعور .. وهذا الظمأ يتحول بنا الى حالة من النشوى والشعور بالاكتمال حال التخلي ثم التحلي بنكهة اوعصارة الشوق الذي يبدأ كما ينتهي وينتهي كما يبدأ لا يطفئه الوقت ولا يخليه سوى التجلي .. ثم يكمل الشاعر فيقول :


فاستعد للآتي إليك

قلبك الحالل فيك

قلبك السائل منك

فلا تشغله بغير ما أعد له 

أذرف – ما استطعت – من ذنوبك

ونم على قتاد جمرك

التحف صدى روحك وتدثر بالوجد فيك

صوت كرجع الابتهال

يأتيك ممزوجا بالندى والبرد

يحضرنا صوت الشاعر وكأنه دليل للسالك في طريقه يقول له ويرشده حيث الوقاية والاستعداد للآتي له فيقول قلبك الحالل فيك .. قلبك السائل منك .. تصور في لحظة القلب كالوعاء تارة في حالة حلول داخل السالك هذا .. وتارة أخرى تصوره كسائل يسيل منه .. كما العصارة .. هذا التصور البيني المقارب في التصورات بين الحلول والسيل .. هو دلالة تجلي من وإلى وفي .. هذه الإحلالات الثلاثة تتضمن معابر أصلية للتحول عبر رحلة الشوق للمشوق لو جاز لنا ان نستخدم عبارة الشاعر في وصف الرحلة الى الله .. فنجد أن القلب وقد أصبح محلا للاشتغال والشوق .. يصبح غائبا حاضرا وحاضرا غائبا في آن فلا يجوز انشغاله بما ليس له او بغير ما اعد له من جاهزية استقبال ومواصلة رحلة الشوق هذه .. وبين هذا البيت ولاحقه يتحول بنا نقلة عميقة لها صدى التوغل المتحرك الساكن في عمق النفس .. ليصبح مجازا سكب او ذرف الذنوب كما الدمع المنسكب هنا وقد اصبح اختلاط الذنب بالدمع صورة وشكلا ومضمونا .. تحوي من مفهوم التخلية والتوبة الحقيقية باستماتة .. ليصبح أيضا مفهوما في البيت اللاحق حيث يقول :" ونم على قتاد جمرك " هو دلالة هذا السيل المنسكب من رحاب القلب الموجوع ندما وألما ..

ولكن في لحظة تخلية حقيقية لا يبقى للألم هناك معنى حيث يصبح التحاف صدى الروح وسموها علامة ودلالة تحلية تجيز للسالك أن يتدثر بالوجد فيه .. فلا مهرب من هذا الوجد الذي هو خلاصة العصارة ونقائها ودلالة انشغال وابتهال الجوارح بما انساب اليها وفيها من القلب السائل منه وفيه .. وما الوجد سوى صدى او رجع الابتهال بالملكوت الأعلى أو اليقين .. حيث يأتي ممزوجا بالندى والبرد .. هنا يحاكينا الشاعر أولى مراحل الرحلة .. ذلك أن هذا الخفقان والرفيف والابتهال والوجع .. ثم انتهاءً بصوت الابتهال الممزوج بالندى والبرد هو مران الدخول او بدايته لعالم الشوق والتوحد الإلهي التي حيث ينتقل منها الشاعر الى اندياحه الثاني فيقول:

ثمة ما يحل فيك 

فابتهج حتى وان صار جلدك

لظى لا تفنيه نار 

هو تصور حسي لمبلغ الألم وما ينشق عنه من ألم .. فالألم يولد ألما والنار تشعل نارا .. هذا التصور لمبلغ التخلية ورحلة الاكتمال والنور .. هي مبرر أو نتيجة في آن واحد لما سبق وأن أعلنه الشاعر بقوله:

أذرف – ما استطعت – من ذنوبك

ونم على قتاد جمرك 

في محاولة لاستكشاف هذا العالم المختلط فيه الكشف والانكشاف والتكشف في عملية منسجمة كامل الانسجام لا يكون فيه التحول بسيطا .. بل في غاية التركيب والاعجاز حيث اليقين يصبح عاملا أساسيا لتكوين سلطة أخرى تعجز أي سلطات تنوء بحملها وثقل أوزارها او حملوتها الإنسانية العادية فتشهق النفس بمرارة لظاها وأيضا يصبح الجلد كما العالق في مسامه .. يتحول ذاته وكأنه في حالة انخلاع .. هذا اللظى ماعاد يفنيه نار .. وإن كان .. فعملية الإحلال .. إحلال النور .. يصبح إعجاز خلق جديد تتحول معه طبيعة الكينونة فما تبقى كما كانت للتحول إلى محل غير عارض للنور واليقين يصبح هو الحارس الأعلى على مشاق الرحلة من هنا يأخذنا الشاعر الى الاندباح الثالث .. فيقول :
في الاندياح راحة

هكذا يقول العارفون 

أنت الآن غير ما ترى

في مرآة نفسك

نفسك الكانت سراب

نفسك الصارت عذاب 

يسكنها نور من ضياه

هنا يحاول الشاعر تصوير مرآة الذات المتحولة / المشتاقة حيث تتبدل وتتحول في سكونها وحركتها .. فيكون التحول من السراب الى العذاب كآية إعجاز تبدي الإرادة كحق اصبح مشروع وغير مشروع في آن فهناك فرق بين المراد والمريد في مسالك العارفين وفي عرفهم الخاص .. تصبح إرادة الخلق من جديد خارج طوق الذات السالكة طريق النور .. للتتحسس مواجعها من جديد من خلال مرآة الذات التي أصبحت مصقولة بالتفاني والألم على درجات متتابعة .. حيث الصعود يصبح في ذاته مسألة إعجاز آخر يتحقق رويدا رويدا .. حتى يكون النور هو خاتمة إشراقة جديدة تتبدى في حضوره الذات على نحو جديد .. فغاية الحضور هو استحضار هذا النور ورؤية الذات والنفس في مرآة تتبدى فيها الغاية الحقيقية وهي أن ييقين العارف طريقه سر بلوغه الحكمة من وجوده فتتبدى الجوارح على نحو مغاير فتقبل على نفسها تتعرف من جديد سر آيتها وخلقها ووجودها .. وهو في ذات الوقت محاولة إفساح المجال لاستيعاب قبس من نور ضياه وهو هنا الله تعالى في حضوره القريب والرقيب في ذات الوقت .. ليكون الاندياح الرابع والأخير :


الآن وقد حل النور فيك

ما همك إن جاءك الشيطان

عن يمينك أو شمالك

الشيطان يسبح في مداه

وأنت تسبح في علاك

نور ونار وظلمة

افتح سراج نفسك

هل تجد في قلبك من حزن ؟

في هذا الاندياح الاخير والذي يمثل في ذاته خاتمة ونتيجة لا يحقق حضوره إلا في ما يطرحه بالسؤال وهو سؤال مغلق على نفسه لا ينتظر إجابة حيث أن المرآة الجديدة التي تحققت من خلال رحلة المشتاق الى المشوق قد حققت اختلافا نوعيا في الاحساس والتعامل مع الحياة بما فيها .. والحزن علامة من علامات الشوق الدفين في طيات النفس البشرية يحضرنا عند الفقد لربما او لربما اشتهاء للنفس مطافات تتجلى في النفس في غير حقيقتها .. ولكن بعد أن تحققت للذات مرآة الحقيقة من خلال ما قد حل من نور فيها .. تتبدى القدرات في الحصانة الذاتية فلم يعد هناك ما يينطوي تحت الحرص والاشتهاء .. فقد استعلت الذات على ذاتها وأصحبت في حالة من الضياء .. بقوله .. افتح سراج نفسك .. هذا الاشعاع الذاتي المركب من النور والنار والظلمة هو خليط او مزيج من السكن الجديد الذي تتحرزه الذات عبر انخراطها في طريقها وأيضا هو ما يبدد لحظات الصراع من خلال سكون الهواجس او الجوارح ليقظة جديدة تعلة بها على مستوى ما كانت عليه .. هي درجة الاحسان التي تشع في ذاتها لذاتها وبذاتها .. هذا الثالوث الحسي .. يبدو وقد تمكن من القبض على ممكناته فيمكنه أن يصير ( بالشدة على الياء ) الأشياء والأحوال كما يروق له فيما هو في ذات الوقت أصبح خارج التأطير وتحقق له انعتاق أثيري .. فكان السؤال في السطر الأخير نتيجة تفرض ذاتها باحتمال طرح السؤال وكان الشاعر يقرأ مع السالك هذه المرآة الجديدة ليطمئنه في حاله .. كما ان هذه الاندياحات لا تخلو من اشتباك وتضامن فلا يمكن الفصل بينها كما تم الفصل بينها على مستوى هذه القصيدة .. إنما هي ملامح شروق كل نقلة نوعية تفرض نفسها كصورة نهائية ولكن في واقع الامر تتداخل هذه الاجتهادات على نحو مساند لبعضها البعض كمقدمة ونتيجة في آن .. ولكن هاك التصور او الحضور النهائي هو بهذا التحرر وانعتاق الروح من أسر المدى الخانق لها لتسبح في علاها الذي حققته عبر خليطها المتحقق من نور ونار وظلمة تتجدد نتائجها في شكل متصاعد 
في النهاية لنا ان نقول أن طريق المشتاق للمشوق .. هو حالة تفرد تبقى على ما يحقق الواصل بيقينه تواصلا الى حيث ينتهي يقينه المفطور في داخله .. وتحقيق مسار من الخلق يتأرجح تحقيقه بين تبصر وبصيرة .

الحوار المتمدن - " ريال ميديا":

اقرأ المزيد

تحقيقات وتقارير

ثقافة وفن

مساحة اعلانية

آراء ومقالات

منوعات