الخميس 18 ابريل 2024

  • أسعار العملات
    العملة سعر الشراء سعر البيع
    الدولار الامـريكي 3.78 3.8
    الدينــار الأردنــــي 5.35 5.37
    الـــيــــــــــــــــــــــــورو 3.04 4.06
    الجـنيـه المـصــري 0.1 0.12

جان نويل بانكرازي.. روائي فرنسي قال للجزائر: "أردت أن أبوح لهم بحبي"

  • 11:29 AM

  • 2018-06-21

باريس - " ريال ميديا ":

ختمت السنوات التي قضاها الكاتب والروائي الفرنسي الشهير، جان نويل بانكرازي في الجزائر، على فؤاده، وهو الذي ولد فيها وتركها بعد عشر سنوات مضطراً بعد الاستقلال، فهو المنتمي لـ"الأقدام السوداء" (كما كان يطلق على المستعمر الفرنسي)، إلا أن رواياته العظيمة كشفت أن قلبه بقي هناك فيها، منتمياً للجزائر.
سنوات الطفولة تلك أنشأت أدباً رفيعاً، لكاتب حاول الانفصال عن الذكرى إلا أنها أبت تركه، وانهمرت كالمطر على عوالمه، وكلما ظن هو وقراؤه أنه فرغ منها عادت لتتفجر من صميم القلب.
حب
صدر له أخيراً رواية "أردت أن أبوح لهم بحبي"، (كنت أرغب في أن أقول لهم إني أحبكم - أردت أن أعبر لهم عن حبي - في ترجمات أخرى)، وهو في التاسعة والستين من العمر، وبعد مغادرته الجزائر بـ56 سنة، عن دار "غاليمار" في باريس خلال شهر يناير (كانون الثاني) الماضي، حيث عاد فيها إلى الكتابة عن ذكريات طفولته في الجزائر، وهي عودة لم تكن متوقعة بالنسبة إلى كثيرين، لا سيما وأنه كان قد أصدر من قبل روايتين عن هذه الذكريات، هما "السيدة أرنول" و"الجبل"، وصدرت خلال هذا العام أيضاً ترجمة لهاتين الروايتين، أنجزها الكاتب والمترجم المغربي سعيد كرامي، وقام بمراجعتها الدكتور منتجب صقر الأستاذ في قسم اللغة الفرنسية بكلية الآداب في جامعة دمشق، في كتاب مشترك ضمن سلسلة "إبداعات عالمية" من منشورات المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب في الكويت.

ويؤكد بانكرازي أن روايته ألخيرة هي صدى لشهادة دفينة في أعماقه عن حبه للشعب الجزائري، وأنها ربما ستكون روايته الأخيرة عن الجزائر.

ويقول: "أنا تعبت من الذاكرة، والحنين، وأشباح الماضي. أنا تعبت من التذكر، والعودة إلى الدوافع نفسها، والمشاعر ذاتها، والوجوه عينها، والمناظر الطبيعية كلها.. أنا مشبع بما عشته وواجهته، وجابهته، لديّ الآن رغبة واحدة فقط وهي: النسيان".

بدايات.. الجزائر.. الليل.. العائلة

وولد بانكرازي في 28 إبريل 1949 في ولاية سطيف في الجزائر، المدينة التي شهدت قبل 4 سنوات من ولادته مجازر مروّعة راح ضحيتها بين 20 ألفاً و30 ألف شهيد جزائري، وقضى أول 10 سنوات من عمره فيها برفقة أبويه وأخته، وتأثرت حياته خلال الثورة في الجزائر بتفاصيل مؤلمة وعميقة وجميلة عذبة كذلك كما يقول، وكان لتلك السنوات التي قضاها هناك أكبر وأبرز أثر على إنتاجه الأدبي.

رحل لفرنسا 1962 بعد استقلال الجزائر، في مدرسة "بيربيانان"، ومن ثم انتقل لباريس ليدرس الأدب في "ليسيه لويس لو غراند" الشهيرة، ثم انتقل لجامعة السوربون، وتسلم شهادته عام 1972 في اللغة الفرنسية وآدابها، وهو حاصل على شهادة التبريز في الأدب الحديث، وعمل أستاذا للأدب من 1972 إلى 1990، كما عمل في الإعلام كناقد أدبى في صحيفة لوموند منذ عام 1993.

ويحمل بانكرازي وسام الفارس الفرنسي للاستحقاق الوطني للفنون والآداب، وهو يعمل منذ عام 1985 ناقداً أدبياً في صحيفة "لوموند – الكتب"، كما أنه أصبح منذ عام 1999 عضواً في لجنة تحكيم جائزة "رونودو" الأدبية، وكان بين الجوائز التي حصل عليها الجائزة الكبرى للرواية التي تمنحها الأكاديمية الفرنسية عن روايته "كل شيء يمر بسرعة" عام 2003، وجائزة "ميديسيس" عن روايته "أحياء الشتاء" عام 1990.

نشر روايته الأولى "الذاكرة المحروقة" في عام 1979 لدى دار نشر سوى، وحصلت روايته "كل شيء حدث سريعاً" الصادرة عام 2003 على الجائزة الكبرى التي تمنحها الأكاديمية الفرنسية، وعرف كذلك باستكشافه لثقافة الحياة الليلية، في روايات عديدة منها عام 1990 رواية "الجائل" التي دارت أحداثها في حانة يقصدها المثليين، في بداية انتشار وباء الإيدز، واستمر على نهج سبر أغوار عالم الليل في روايته عام 1994 "صمت الشغف"، والتي حصلت على جائزة "فاليري لاربود".

وعاد بقوة إلى طفولته في ولاية باتنة الجزائرية، حيث الزمن المدمى بالحرب، في روايته مدام أرنول"، التي صدرت 1995، وتتبعت الرواية علاقة صداقة فريدة بين صبي صغير وجارته المنتمية إلى منطقة الألزاس في فرنسا، وكانا يعيشان في الجزائر، واعتبر الطفل هذه السيدة كأم أخرى، وشهد على اعتبار الجميع لها حليفة للعرب، لأنها دافعت وحمت فتاة جزائرية من اعتداء جندي فرنسي، وعوقبت أرنول بقسوة لفعلها هذا، لكنها برزت كشخصية شجاعة، وحملت الرواية حكاية غنية التفاصيل والمشاعر، وحصلت هذه الرواية على عدة جوائز، منها جائزة باريس ليفر إنتر" و"موريس جونوفوا " و"ألبير كامو".

وفي تحية أدبية لوالده، أطلق هذا الكاتب المبدع روايته "إقامة طويلة" 1998، والتي نالت جائزة "جان فروستي"، ثم كتب لوالدته رواية "مخيمات رينيه"، واعتبرت الروايات الثلاث، "ثلاثية ذكريات عائلية".

أطفال قتلى .. جبال الأوراس
وفي روايته الأولى عن الجزائر "السيدة أرنول"، توالدت صور تلو أخرى نابضة على نحو عذب ورهافة لا تنتقص من ثقل الواقع الحقيقي المر، حيث السيدة الرصينة أرنول صاحبة خيال واسع ترتبط بالطفل الرقيق المشاعر، وتحدثه بعاطفة حميمة عن الشعب الجزائري المحتل، ويأخذ الطفل دور السارد، الذي انشغلت عنه والدته وتوترت علاقته مع والده ، بينما السيدة يهملها زوجها وتعيش منعزلة بلا صديق سوى الطفل، الوحيد الذي لم يدنها بعد دفاعها عن الجزائر.

أما روايته الثانية عن الجزائر التي حملت عنوان "الجبل" وحصلت على جائزة فرنسوا مورياك من الأكاديمية الفرنسية وجائزة مارسيل بانيول، وجائزة البحر الأبيض المتوسط، كشف بألم عن ذاكرته الجريحة التي ظلت تعيش داخله لمدة طويلة، وكان أبطالها 6 أطفال أصدقاء قُتلوا في الجبل خلال الحرب الجزائرية، وكان صديق سابع لهم قد تخلف عن مرافقتهم، فبقي هذا الأمر معذِّباً ومؤرِّقاً له بحدة.

وتستهل هذه الرواية سردها من لحظة ما، بعد ظهيرة يوم هادئ، توقفت فيه الهجمات قليلاً، كان الأطفال يلعبون بعضهم مع بعض في ساحة مطحنة القرية، وشاءت الصدف أن يعرض عليهم سائق الشاحنة أن يصحبهم إلى الجبل، فصعدوا إلى خلفيتها، مسرورين مبتهجين بعرضه، حيث كان الجبل وجهة محظورة عليهم، وكانوا يعتقدون أنه "مليء بوديان من الجعران والكنوز المدفونة والمحاربين"، واكتفى الطفل السابع الذي رفض اقتراح السائق، بمشاهدة رفاقه الستة يرحلون وهم يجلسون في خلفية الشاحنة. "ظل وحيداً وسط ساحة الطاحونة. بقي ينتظر حتى المساء، وهبّت حينها رياح باردة وجليدية من جبل الأوراس، الذي عثروا بين صخوره السوداء على الأطفال الستة مقتولين".

وبقي هذا الطفل الذي أخذ دور السارد، تحت وطأة شعور ثقيل بالذنب والندم لأنه ترك رفاقه في ذلك اليوم يمضون إلى حتفهم وبقي هو حياً، وظل يرافقه إحساس بالحزن العميق والفشل والعار لكونه الناجي الوحيد من تلك المأساة.

الضوء المستحيل.. الشرنقة.. النسيان
وتقول الكاتبة والباحثة، خالدة بورجي: "كبر الطفل المصدوم من اختفاء رفاقه، وصار راشداً شاهدا على أعمال الجيش الفرنسي الإجرامية في حق الأهالي والأطفال العزل.. بعيداً عن سنواته الثمانية، ومأساة طفل، لقد صار شاباً، وصار مجنداً في الجيش الفرنسي، وكانت هناك بالموازاة حرب بين ثوار الأهالي وجيش فرنسا والمعمرين، ارتكبت خلالها فظائع كبيرة، أكبر بكثير من جريمة اختطاف الأولاد وقتلهم".

وتضيف: "رغم تكريسه الرواية للحديث عن معاناة طفل يكبر مجروحاً، إلا أن الكاتب يروي أيضاً اقتحامات الجيش الفرنسي للدواوير وتمشيطه للقرى، مع ما يصحبها من جرائم أخلاقية وجنائية، آلام الوجوه التي اسودت من اثر أشعة الشمس الحارقة والغبار الذي تثيره الريح.. عمليات الإعدام تمت في عجلة من أمر الجيش في الجبال. إعدامات لا تترك أي أثر.. اغتيالات في الشوارع بسبب أبسط شك أو مجرد غموض، زرع الإرهاب في كل مكان، وخوض حرب ضروس مع طرف مؤمن بالانتصار أو الموت، انتهت بإجبار الفرنسيين على لمغادرة البلاد التي كانوا يعيشون فيها منذ سنوات أو أجيال، ثم متاعب المدينة (باريس)، التي اضطرت قسرا إلى تحمل أولئك الذين أعيدوا إليها مرغمين، ورسم مصائر جديدة لهم".
ويقول الكاتب في روايته: "كان هناك مزيد ومزيد من الحقد والكراهية التي عمت في كل مكان.. لم تكن في حاجة إلى شعار، أو إلى ذريعة، أو إلى شرارة لتندلع".

وكان بانكرازي يقول: "لن نستطيع الفكاك من تجارب الطفولة سواء كانت سعيدة أم حزينة، فهي رحم ثان تتشرنق فيه الأحاسيس والذكريات، كاليرقات، التي تتذكر موطنها الأصل، تعود إلى اقتفاء آثار الذكرى والحنين مستدلة عليه ببداية البدايات، بعض الناس يعيشون هذا الحنين فقط، بكل ألوانه وآثاره، والبعض الآخر ممن وهب مهارة الكتابة والإبداع، يفرد لها صفحات تلو الصفحات، فتتحول الصفحة إلى شاهد على تلك اللحظة الهشة، الهاربة بسرعة، كالضوء المستحيل الذى يرفض النسيان".

ويضيف: "الكتابة هي نقل هذا الضوء الحميم.. الكتابة هي أن نتذكر".

هرب.. نداء.. صرخة حياة
ويقول الكاتب والناقد، حسونة المصباحي: "الجزائر تلاحق العديد من الكتاب الفرنسيين والغربيين، وفيما يخص بانكرازي نجده في روايته معجوناً بذكرياتها، وفي روايته "إقامة طويلة"، يتطرق إلى فصول من حياة والده في جبال الأوراس التي اختار الاستقرار فيها رغم قسوة طبيعتها، وفي "الجبل" هو يرثي أصدقاء له من الجزائريين والفرنسيين قتلوا خلال الحرب الجزائرية".

ولكي ينسى الجزائر وجراحها، تنقل بانكرازي كثيراً عبر العالم، فقد عاش في منطقة البحر الكاريبي، وفي البعض من البلدان الأفريقية، وفي أماكن أخرى، إلا أن الجزائر ظلت تلاحقه فلم يتمكن من الفكاك منها أبداً، وللتعبير عن ضيقه من هذه الملاحقة المستمرة، صرح كما ذكر سابقاً إنه لم يعد يتحمل الحفر في الماضي البعيد، ولم يعد يطيق الحنين المر لأماكن وشخصيات، ولم يعد بمقدوره استحضار وجوه عرفها في طفولته في قرية صغيرة في جبال الأوراس، أو في مدينتي سطيف وباتنة، إلا أن دعوة لحضور مهرجان عنابة السينمائي في عام 2015 كعضو في لجنة التحكيم أعادته إلى ماضيه الجزائري، وفجرت فيه ذكريات كان يظن أنها انطمست وإلى الأبد.

ويضيف المصباحي: "في روايته الأخيرة "أردت أن بوح لهم بحبي"، يروي جان نوال بانكرازي، تفاصيل عودته إلى "موطنه الأول"، ففي عنابة فضل أن يعيش مع الناس البسطاء، ومع الأطفال العاشقين مثله للسينما، ومع العاطلين عن العمل، ومع شعراء يعيشون على الهامش، والأوقات التي أمضاها معهم أعادته إلى طفولته الأولى. ففي تلك الفترة، كان يعشق السينما، ويحب التردد على قاعة "الكوليزي" في باتنة لمشاهدة أفلام الوستارن، وأفلام شارلي شابلن الذي يعتبره "عبقرية مطلقة"، وأفلام الواقعية الإيطالية. وكان يجمع صور نجوم هوليوود ليزيّن بها جدران غرفته. ومع الأطفال الفرنسيين والجزائريين، كان يمضي أوقاتا بديعة في استحضار مشاهد مثيرة من هذا الفيلم أو ذاك. وكم كان يحب أن يروي لوالدته أحداثا من الأفلام التي كان يشاهدها، والوجوه القديمة تبرز لحظتها من جديد ليرى والده يرجف رعباً بعد أن غرقت الجزائر في الحرب، وتعددت عمليات التفجير في المقاهي، وفي المطاعم، وفي قاعات السينما، وفي الأحياء الفرنسية في المدن الكبيرة، وفجأة اختفى جيران لهم من الجزائريين ليعلم في ما بعد أنهم التحقوا بجبهة التحرير الجزائرية.

ويزداد بانكرازي توغلاً في الماضي عندما يدعوه أصدقاؤه الجزائريون في عنابة لزيارة القرية الفقيرة التي فيها ولد ونشأ، عندئذ تتهاطل الذكريات مثل مطر غزير فلا يستطيع لها رداً.

ويقول المصباحي: "لا يروي بانكرازي ذكريات الماضي دفعة واحدة، بل يتوقف من حين لآخر ليصف مشهداً، أو ليروي حدثا من الحاضر، وتبدو رواية "كنت أود البوح لهم بحبي" كما لو أنها صرخة حب للحياة رغم كل ما فيها من فواجع، ومن مرارات".
وكالات - 24 الشيماء خالد:

اقرأ المزيد

تحقيقات وتقارير

ثقافة وفن

مساحة اعلانية

آراء ومقالات

منوعات