الجمعة 19 ابريل 2024

  • أسعار العملات
    العملة سعر الشراء سعر البيع
    الدولار الامـريكي 3.78 3.8
    الدينــار الأردنــــي 5.35 5.37
    الـــيــــــــــــــــــــــــورو 3.04 4.06
    الجـنيـه المـصــري 0.1 0.12

قصة قصيرة ( أحلام ) !! للكاتب/ د. عبد القادر فارس

  • 00:03 AM

  • 2017-09-05

عبد القادر فارس*:

كانت الفتاة " أحلام " ابنة القرية الريفية الجنوبية , والتي أتمت للتو دراسة الثانوية العامة , وقد بلغت ثمانية عشر ربيعا من عمرها , واكتملت أنوثتها بشكل ملفت , تحمل الجمال الريفي الطبيعي , حين أخذت تشاهد منحنيات جسدها الملتف , وتنظر لوجهها في المرآة في ذلك الصيف القائظ , الذي صنع من خديها وردتين جوريتين , يزدادان احمرارا , كلما ارتفعت درجة الحرارة , هذا الاحمرار الذي لا يفارقها كذلك عندما يهطل الثلج ويغطي أسطح المنازل القرميدية في بلدتها , ويفرش الأرض ببساطه الأبيض الناصع ... كانت تحلم أن تنتقل للدراسة الجامعية في إحدى المدن الكبرى القريبة من بلدتها, فجاءت المفاجأة لها عندما تم قبولها في عاصمة البلاد , فصارت فرحتها لا توصف , فها هي سترى وتعيش في صخب العاصمة التي لم ترها سوى عبر شاشة التلفزيون , والتي طالما سمعت وقرأت عنها عبر الاذاعات والصحف ... أخذت أحلامها تتسع , تنتظر على أحر من الجمر قرب بداية العام الدراسي الجامعي ... أحلام منام , وأحلام يقظة , عن العالم الجديد الذي ستعيشه بعيدا عن عادات وتقاليد القرية , وقيود الأهل التي كانت تكبل حريتها في كثير من الأحيان .

ومع خريف ذلك العام , وصلت إلى عاصمة البلاد بشوارعها الواسعة , وضجيج سياراتها , وزحمة سكانها , وكان أول قرار لها , خلع غطاء الرأس ( الايشارب ) , حتى لا تبدو بمظهر البنت الريفية , وتشعر بالمساواة مع بنات العاصمة المتحررات ... تخطت المقاهي التي ترتص على أرصفة جانبي الطريق إلى الجامعة , شعرت أن عيون جميع من يجلسون إلى المقاهي تتابعها , ازدادت خجلا , فزاد احمرار وجنتيها ووجهها , وشعرت بالدماء تكاد تنفر من الخدين الورديين , بعد أن أخذ العرق يتصبب من جبينها الأبيض اللامع كثلج قريتها , كانت تعرف أنها جميلة , ولكن ليس إلى هذا الحد , الذي يجعل جميع من يجلس في آخر مقهى قرب الجامعة , يلتفتون اليها , ويرسلون عبارات الاعجاب والاطراء , إلى درجة المعاكسة , التي وصلت إلى حد التحرش اللفظي ... أسرعت الخطي , حتى لا يتحول إلى تحرش جسدي , دخلت بوابة الجامعة , وهي تلاحق أنفاسها بصعوبة بالغة , وجلست إلى أول مقعد حجري في حديقة الجامعة , لتأخذ قسطا من الراحة , يزيح عنها خوف ما كانت تحس به , قبل أن تبدأ اجراءات التسجيل بالجامعة .

عندما ذهبت إلى مكتب التسجيل , كان هناك طابور مختلط من الفتيات والشبان القادمين للتسجيل , توقفت مكانها للتفكير , فهي لم تعتد أن تقف في مثل هذا الطابور المختلط , وطالتها الهواجس خشية أن تقع فريسة للتحرش من أحد الشباب إذا ما جاء خلفها ... انتظرت قدوم فوج من الطالبات , ودست نفسها وسطهن , بعيدا عن أعين الطلاب الذين كانت تحس أن عيونهم تلاحقها , تنفست الصعداء , وأخذت ترتب أوراقها في انتظار وصول دورها ... عند وصولها كان عليها أن تعبئ استمارة القبول وتكتب بها ثلاث رغبات دراسية تناسب مجموعها في شهادة الثانوية , احتارت أي رغبة تقدم على الأخرى , فهي عاشقة للغة والأدب العربي , ولكنها تحلم أن تكون صحفية ومذيعة , كما أنها كثيرا ما كانت تود دراسة الفلسفة... دونت رغباتها الثلاث , على أن يتم الرد عليها بعد الانتهاء من التنسيق الجامعي , بينما تم منحها بطاقة السكن الجامعي لحي البنات والذي يبعد عن الجامعة بعدة كيلومترات ... بعدها استقلت الحافلة مع بعض الطالبات اللائي تعرفت إليهن , وشقت الحافلة طريقها عبر شوارع العاصمة المزدحمة , وبعد حوالي الساعة وصلت الحافلة إلى مقر السكن الجامعي للفتيات , حمدت الله أن السكن لم يكن مختلطا ... في الحي الجامعي بنايات طويلة تتكون من ثلاثة طوابق بها عشرات الغرف , وفي كل غرفة أربعة سرائر وطاولتان صغيرتان حولهما أربعة كراسي , اصطحبتها المشرفة إلى غرفتها وسلمتها مخدة وغطاء للنوم ( بطانية ) , وجدت في الغرفة ثلاثا من الطالبات , وقد اخذت كل واحدة منهن ركنا من الغرفة , اثنتان بجوار النافذة , والثالثة قرب الباب , بينما تركنَ السرير الرابع في زاوية معتمة , امتعضت من هذا الوضع في الأمر , لكنها قبلت به على مضض , على أمل أن تقنع احدى رفيقاتها في الغرفة بتغيير الأماكن في وقت لاحق .

بعد اسبوع على هذا الحال , تم قبولها في كلية الأدب العربي , وهو ما كانت توده في قرارة نفسها , وعلى الرغم من شغفها بمواد الدراسة , إلا أنها رأت أنها لا تزيدها علما إلا قليلا , فهي تعتقد في نفسها على دراية بمعظم مواد الدراسة , من نحو وصرف وبلاغة ولغويات , كيف لا وهي التي تنظم الشعر , وتكتب النثر في مادة التعبير بكل كفاءة وبلاغة منذ دراستها الاعدادية , مما جعلها تهمل الدراسة , خاصة وأن السكن البعيد واضاعة الوقت الطويل في المواصلات , ثم في كافتيريا المطعم الجامعي , جعلت الدرجات التي حصلت عليها في الفصل الأول ضعيفة , وليس بمستواها الحقيقي لدراسة اللغة والأدب العربي .

أمضت عامها الأول بصعوبة رغم الفرح بوجودها في الجامعة وفي عاصمة البلاد , حيث تفتحت مداركها الفكرية والعقلية , بعدما اختلطت بمستويات مختلفة من الناس , طلبة , أساتذة , كتاب وشعراء ومثقفين . ولكن كان عليها أن تعود لبلدتها خلال العطلة الصيفية لتقضيها مع العائلة ... أمضت أول أسبوعين بكل فرح وسط الأهل والجيران والأصدقاء , لكن مالبثت بعد وقت قصير أن اشتاقت لأجواء العاصمة الصاخبة , لكن الحي الجامعي مغلق , فإلى أين ستذهب , قضت شهري العطلة وسط ملل كبير , واشتياق أكبر للجامعة وأجواء العاصمة .

مع بداية العام الجامعي الثاني , حزمت حقيبتها وأقلعت إلى حيث مبتغاها, ومع وصولها إلى حيث السكن السابق , علمت أنه تم نقل الحي السكني للبنات إلى مكان أبعد عن مكان الدراسة في الجامعة , عندها تشاورت مع عدد من زميلاتها المقربات , في استئجار شقة صغيرة تكون قريبة من الجامعة وسط العاصمة , لكن محاولتهن اصطدمت بالأجر الكبير للشقة الذي لم يستطعن تدبيره , حينها عرضت عليها إحدى زميلاتها أن ترافقها إلى شقة أحد الأصدقاء من المثقفين اليساريين الذي يسكن بمفرده في شقة من غرفتين , فهي وصديقها تنام في غرفته , والغرفة الثانية يمكن أن تكون لها , قبلت بالاقتراح وأخذت حقيبتها من الحي الجامعي والتحقت بزميلتها وصديقها في بيته , في أول الأمر راق لها هذا الوضع , لكن بعد فترة أخذ صديق زميلتها يتغزل بها عند غياب زميلتها , فاستسلمت لمغازلته ووقعت في شباكه , غير أنها بعد فترة استفاقت مما هي فيه , وقررت المغادرة إلى الحي الجامعي مرة أخرى , لكن الوضع أصبح غير مريح لها بعد أن قضت عدة أسابيع في منزل ذلك الصديق , وباتت في حيرة كبيرة , في أن تبقى في الحي الجامعي على مساوئه , أو تعود إلى حيث زميلتها وصديقها , وتقبل أن تكون وعاء لمتعة ذلك الصديق الذي أعجبته , وصرح لها بأنها امرأة أخرى وليست كباقي النساء اللاتي عرفهن , حينها اكتشفت أنه " زير نساء " , ولذلك فإنه لم يتزوج رغم أنه قارب الخمسين , وهي التي كانت تحلم بشاب في مثل عمرها يبادلها مشاعر الحب وليس الجنس فقط .

تغيرت حياة أحلام , وتبدلت أحلامها , بعدما أغرتها العاصمة بمباهجها , خاصة بعد أن اختلطت بالعديد من الفتيات والشباب , ومن طبقة الكتاب والصحفيين والمثقفين , فكانت لها الفرصة لتعمل مذيعة في إحدى قنوات التلفزيون التي بدأت تنتشر بسرعة وكثرة , بعدما عرض عليها مدير تلك القناة العمل بعد دوامها الدراسي في الجامعة , حيث قبلت بفرح ذلك العرض , وهي التي كانت تحلم بأن تكون في يوم من الأيام مذيعة وصحفية , غير أن مطامع مديرها الجسدية فيها , بعد أن عرض عليها أن يستأجر لها غرفة في فندق متواضع قريب من مكان دراستها وعملها , مقابل أن يقضي معها بعض الليالي في ذلك الفندق ... انتفضت ورفضت العرض , وقررت عدم الاستمرار في العمل , على الرغم أنه كان يوفر لها قدرا من المال الذي تحتاجه .

بدأت أحلامُ " أحلام " تتبدد وتتعثر , وتبدلت أحوالها الدراسية , فلم تعد تهتم بدراستها , رغم أنها كانت تجتاز الامتحانات دون دراسة , فقد انغمست في أجواء العاصمة الصاخبة , واصبحت البنت الريفية تلبس ارقى الملابس , وتتزين بكل المساحيق , وتدخن السجائر والأرجيلة , وتدمن على شرب البيرة , وأحيانا أخرى تتناول بعض الخمور الفاخرة في المناسبات , وتجربة حتى بعض أنواع المخدرات , بينما كانت تنتقل من بيت صديق لصديق آخر , تتمتع بحياتها وحريتها , وهي في قرارة نفسها غير راضية عما تفعله , لكنها كانت مضطرة لذلك , لأنها أصبحت بحاجة لأن تعيش في مستوى أعلى من امكاناتها , بعد أن وجدت من يغدق عليها الأموال والهدايا.

بعد سنوات أربع أنهت دراستها الجامعية , وكان عليها أن تعود إلى قريتها , غير أنها لم تستطع العيش في القرية , لأن طموحها وأحلامها الحائرة أكبر من حجم قريتها , وقررت العودة إلى صخب العاصمة , وهناك بدأت تنهال عليها عروض الزواج من فئات مختلفة من الرجال من جميع الأعمار بمن فيهم من هو عمر والدها , ومن شبان في مثل سنها أو حتى يصغرونها, ومرت بتجارب عدة من العلاقات , سواء الحميمة أو العابرة , غير أنها كانت حريصة في الإبقاء على عذريتها , والحفاظ على بكارتها , فهي لا تزال تحمل في داخلها المرأة الشرقية والفتاة الريفية , على الرغم من تشجيع بعض صديقاتها لها بالتخلص من هذا الموروث الاجتماعي والديني , حتى تتمتع بحرية أكبر بحياتها الجنسية .

في نهاية المشوار قررت أحلام القبول بعرض أحد الأصدقاء الذي يقاربها سناً , كانت قد التقت به في أحد الملتقيات الثقافية , الذي عقد في بلادها لعدة أيام وتعرفت إليه , وأعجب بها , وتعلق بها لدرجة الجنون, وهي تحاول ألا تتعلق به , لأنه من بلد غير بلدها, غير أن إلحاحه وصبره عليها عدة سنين , وعرضه الزواج عليها أكثر من مرة , لتعيش معه في بلده , وهو الذي لم يرتبط بأي امرأة أخرى رغم أنه بات على أبواب الأربعين من عمره , جعلها تقبل العرض بعد أن فاتها قطار الزواج , وانضمت لقوائم العنوسة في بلادها , بعد أن وصلت إلى نهاية الثلاثينات من عمرها, , وقبلت أن تقترن به وتسافر معه إلى بلده , لتعيش بعد ذلك الحياة الزوجية التي لم تكن راغبة فيها كثيرا , رغم أن زوجها وفر لها كل ما تحتاجه, ورغم الكم الكبير من الحرية التي كانت تتمتع بها , إلا أن أحلامها الحائرة التي كانت تتمنى أن تكون كما تريد , باتت أحلاماً غائرة بعد أن سرقتها سنين العمر , دون أن يتحقق لها ما كانت تصبو إليه في احلامها السابقة .!!

* كاتب فلسطيني يقيم بالمهجر:

اقرأ المزيد

تحقيقات وتقارير

ثقافة وفن

مساحة اعلانية

آراء ومقالات

منوعات