الخميس 28 مارس 2024

  • أسعار العملات
    العملة سعر الشراء سعر البيع
    الدولار الامـريكي 3.78 3.8
    الدينــار الأردنــــي 5.35 5.37
    الـــيــــــــــــــــــــــــورو 3.04 4.06
    الجـنيـه المـصــري 0.1 0.12

"بعد قليل سيعودون دونه"...قصة قصيرة للكاتب/عامر المصري

الكاتب/عامر المصري

الكاتب/عامر المصري

  • 10:48 AM

  • 2017-08-27

عامر المصري*:

بعدما رجع من أخر سطر كتبه في روايته الجديدة؛ اتكأ على بعض جدران جسده التي لم تنقض، تذكّر أحداث الرواية كلّها فأشفق على نفسه لأنه صَنَعَ عالما كان يتمناه حقيقةً في يومه...استباحت التفاصيل رأسه فعبرت بين فصوص دماغه كالقطار؛ عارفة طريقها.
ثمّة رابط غريب في الرواية سدّ تلك الفجوة التي كونتها الليالي. ثمّة منطقية في سرد الأحداث ونسج الخيال، كأنّها عصارة خبرته في الحياة. أنهاها بجملةٍ مخيفة كما بدأها بجملة مخيفة أيضًا. لقد تعلق الأمر بالواقع المر الذي يهرب منه راجيًا استبداله ليس لشيءٍ إلا لكسر ذلك الحاجز الذي يسميه القدر. كتب في بداية الرواية: "إن البداية صغيرة كما النهاية، وجلّ الأمر؛ هو محاولة لتعويض نقص ما في الواقع... هذه الكتابة كما الحياة، إنها لعبة سخيفة معروفة النتائج". كان يكتب والدموع تذرف من قلمه لا من عينيه، كاتبةً وجعَ السنوات السابقة. موجعٌ أن تكون منفيًا بين نفسك وبين التفاصيل العادية التي تصبح شيئًا مستحيلًا بمجرد ارتباط اسمك بفلسطين. لقد مارس حقه الطبيعي في السفر منذ أن بدأ الرواية وهو عائد إلى يافا، حاملًا معه أمل الاستمرار والنبوت في حضن أشجار البرتقال هناك، تاركًا المنفى بكلّ حذافيره. إنّ الحياةَ جديرةٌ بالحرية لأن ارتباطها بالسجن يقتلها ويجعلها مجرد وجع متكرر.
حمل بطل الرواية جنسيةً ألمانية، كان اسمه (عودة) نسبةً إلى ما قضى جلّ عمره في انتظاره، لكنه لم يعد فصنع ذلك الحلم وجعله إنسانًا حرًا يتنفس، يشعر، يسافر، لا يملّ الانتظارَ ويركب القطارات.
لم يكن هناك سببًا لنهوض روايته على الورق سوى أنه افتتح إحدى الصباحات على أصوات الانفجارات المتتالية والضخمة في زقاق المخيم المعتمة ليلَ نهارَ. لقد تسللتْ البداية داخل جسده حتى أصيب بقشعريرةٍ مخيفة تشبه رجفة العودة من الموتِ إلى الحياة وما أصعبها من عودة، إنها العودة إلى حيفا... يا الله!
شكلتْ حيفا معادلةً فارقة لا يمكن التنصل منها كما لا يمكن حلها، تمامًا كاللغز الذي يسيطر على مرض السرطان؛ لا علاج له، كما أنّ وجوده لا جدالَ فيه. كذلك حيفا، تلك المدينة التي تطلّ على الجنة، شكلتْ له لغزًا مبهمًا رغم وضوحه، وطيفًا ملونًا يغازل عينيه بكلّ جمال، حاول جاهدًا أن يعود إلى حيفا كما حاول غسان في رواية عودته.
أشعلَ سيجارته التي نادرًا ما تنطفئ، خصوصًا عندما يشرع في بحر الكتابة، تسكن السيجارة فمَه قبل أن ينصبّ حبرُه على الورق لينسجَ خيوطًا جديدة لمولودٍ كِتابيّ. المشكلة أنّه الشاهد الوحيد تقريبًا على تغيّر خارطة شخصيته بمجرد دخوله في كوخ الكتابة، وهو في مقتبل العمر حتى إنّ ذلك قد سبّب له فجوةً كبيرة بين واقعه وعقله، وراحت الفجوةُ تتسع؛ حتى جعلته يهرب فارًّا من أزقة المخيم، باحثًا عن مكانٍ آخرَ في عالمٍ ثانٍ منحه له القلم... فصنع من القلمِ عالمًا متوازنًا في نفسه على الأقل.
نفثَ دخان سيجارته؛ حتى أصابه دوارُ جعل تلك الوريقاتِ المتناثرةَ على المكتب؛ حورياتٍ ينسجنَ له من الحروف معطفا ويرصفن له بالكلمات أرض وطن مثاليّ. جالت في خاطر (عودة) ملامحُ البلاد وهو غافٍ ينتظر انتهاءَ نسج معطفه. رأى بيته الذي لم يسكنْه إلا يومًا واحدًا. ساحة البيت الواسعة التي تمشطُ أمواج البحر كل صباح، بيدر الليمون والبرتقال وهو يقبِّلُ نسماتِ الهواء بعطره، جمال القيلولة تحت شجرة التين..
رجال في الشمس ليست اسمًا عابرًا في حياة (عودة).. فهي أول من فتّحتْ عينيه على الهجرة والهروب من جحيم المخيم؛ ليس استغناءً عن الوطن، ولكنّ القناعة التي لازمته هي أنّ الوطنَ قريبٌ برغم المسافة، ويظل أقربَ من المسافة التي تفصل خيمة لاجئ عن آخر. متى شاء وصل إلى صورته بسهولةٍ تامة. لقد ألهبَ غسان حماسه في روايته، فقرر الهجرة إلى الكويت، رغم النهاية الموجعة للرواية، لكنّ مرّ العيش وذلك العقل الذي يحمله على جسده يستحق المخاطرة لأجله. ربما تلك المخاطرة تساعد في إيصال كتاباته إلى أبعد من حدود الأرض، وربما تتجاوز حدود السماء. لذلك كان قراره بالفرار من زقاق المخيم بالنسبة له هو قرارَ الأمّ فلسطين، ويجب أن ينفذَه على أيةِ حال. سلكَ طريقَ الصحراء كي يصل من العراقِ إلى الكويتِ بعد عذابٍ مضنٍ. استمر في العمل هناك سبعَ سنواتٍ، أصبح خلالها أحدَ أكبر العمّال في الكويت. لم يمضِ وقت طويل حتى سلك طريقًا أخر إلى ألمانيا بشقّ الأنفس، واستقر هناك مستعينًا بما جناه من أموال في الكويت. 
رمى جسده بكامل ثقله على السرير. استرخى، رمى عُقْبَ سيجارته التي أكلتها أنفاسه، ثمّ غفى...
للوهلة الأولى ذُهِلَ (عودة) بمشهدِ ألمانيا، لقد رصع البياضُ سطحَ المدينة كلِّها، كما أنّ السكان هناك ليسوا كما اعتاد، إنّهم غريبون، لا يشبهونه ألبتة. خفّف حدةَ الدهشة التي نبتت على وجهه; تلك الراحة النفسية التي سَرَتْ إليه بلا مناسبةٍ. ثمّة هدوء يجوب طبيعة برلين في النهار..
بدأتْ معالم عودة بالذبول، اصفرّ وجهه. تَدحرجَ من غفوتهِ إلى تلك المنحدرات التي صنعتها أمطارُ المتاهات التي سقطت على رأسه...
"إنّها أكذوبة" قال وهو يهوي إلى النهاية.
سحرت برلين عينا (عودة) حتى تعوّدَ جمالها؛ فتأصلتْ في دمه كقطعة اللحم في الجسد. مرّت الأيام وهو يكرس حياته للكتابة، ولم يمضِ وقت طويل حتى زيّنت كتاباته هتافات الغاضبين، ورُسمتْ صورُته على الجدران وخُطّتْ كلماتُه على صفيح بيوت المخيمات.
لقد انتهت الرواية وبطلها يحجزُ تذكرةَ (عودة) إلى حيفا. إنّها التذكرةُ المجانية الأولى التي يقطعها في حياته.. بعدما حُررتْ حيفا، وانبلج الصباحُ فيها على زغاريد الأمهات العائدات إلى أفران الخبز ورائحة البرتقال، وعادتْ شمسها إلى الشروق. كانت معركة ضروسا لكنّ الجيش العربي العظيم، استطاع استعادة كافة الأراضي المحتلة وكان آخر ما استعيد هو أول ما فقد: حيفا..
لقد حقق معجزة غسان في العودة إلى حيفا ببطله المنشود، وسقى روحه بالخلاص هناك؛ حيثُ بساتين الدنيا تربي يديه مع أمواج البحر الهامسة في أذنيهِ والزاحفة بملحها إلى جلده ودمه...
بدأت روحُهُ بالخروجِ حتى انتفضَ جسده انتفاضتَه الأخيرة... فارقَ الدنيا وهو يقول أكذوبة كبرى.. أكذوبة كبرى... 
إنّ حياته هراء وخرافات كبيرة ترجم خلافَها على الورق، سرحَ معها في عالمٍ ليس معه، فهو لم يقوَ على اتخاذ قرار الهجرة خوفًا من الخزان، ولم يستطع أن يصل بكلماته إلى فوهات البنادق ولا حتى إلى أفواه المناضلين. 
مات دون أن يرى طائرة، ولم يقطع تأشيرة إلى أيّ بلدٍ كان، حتى إنّه طيلة أعوامه السبعين لم يرَ طائرةً قط، ولم يحصل على جواز سفر لأسبابٍ أمنية، ما زال يجهلها حتى بعد موته. 
تناثرتْ أوراق الرواية التي لم تُجمع من الأساس... جاء صديقه ليطمئن عليه فوجده غارقًا في الموتِ، وعلبُ السجائر تفرش أرضَ الغرفة التي انتهت بانتهاء صاحبها. رآه ميتًا كما حيفا الآن، وورقة النهاية ملقاةٌ على جسده المنتهي، مكتوبٌ عليها: "أكذوبةٌ أخرى.. أكذوبةٌ كبرى"...

*كاتب فلسطيني:

القصة حاصلة على المركز الأول بمسابقة عبد الكريم الكرمي..(2016-2017 )

اقرأ المزيد

تحقيقات وتقارير

ثقافة وفن

مساحة اعلانية

آراء ومقالات

منوعات