الجمعة 29 مارس 2024

  • أسعار العملات
    العملة سعر الشراء سعر البيع
    الدولار الامـريكي 3.78 3.8
    الدينــار الأردنــــي 5.35 5.37
    الـــيــــــــــــــــــــــــورو 3.04 4.06
    الجـنيـه المـصــري 0.1 0.12

دكتور في الفلسفة: بائع خضار !

  • 02:57 AM

  • 2017-07-03

عدنان جابر :

نشرت الصحافة في الأردن وسوريا ولبنان عن موضوع إبعادي من الأردن في 9-9-1998. وأصدرت مجموعة من الكتاب والصحفيين العرب في سوريا بياناً للتضامن مع قضيتي.
حسناً، باتت قضية إبعادي معروفة، وثمة بيانٌ تضامنَ معي، ولكن ماذا عن العيش؟ ينبغي أن أستأجر بيتاً وأعيش، وأرسل مساعدة مالية لأطفالي في بلغاريا.
وجدت نفسي في ضائقة مالية. سعيتُ إلى العمل في مجلات الفصائل الفلسطينية المتواجدة في دمشق، فوجدت من المسؤولين فيها برودا ولؤماً وعدم استجابة. في البدء طرقت باب مجلة "الهدف" التي عملت سابقاً في هيئة تحريرها وهي مجلة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين التي كنت منتمياً إليها واستقلت منها بعد انعقاد المؤتر الخامس عام 1993.
"الإمبراطور!" رئيس تحرير مجلة "الهدف" المشرف العام (!) تعامل معي بخبث ولؤم ولم يقبل أن أعمل في المجلة لا مقابل راتب شهري، ولا بـ " الاستكتاب" بالقطعة.
كان واضحاً لي أن موقف هذا "الإمبراطور!" مني هو موقف "ثأري" بسبب كتابي "الثوب والعنب، في سوسيولوجيا الثورة الفلسطينية" الذي أخضعت فيه للنقد المقاومة الفلسطيية برمتها، بما فيها الجبهة الشعبية، ودعوت فيه إلى استقالة ياسر عرفات أبو عمار وجورج حبش "الحكيم" انطلاقاً من مبدأ التجديد وضرورة تهيئة الوضع لما بعد.
شعرتُ بالمرارة وأنا أجد رفاقاً يطلبون مني أن أعود لأكتب في "الهدف" بينما "الإمبراطور!" يرفض أن أكتب في "مجلته" !

ما أقسى القمع حين يكون من الحضنِ !
وما أقسى القهر حين يكون من الحزب !

أمام هذا الوضع، ولأني أكره مد يدي للآخرين أو اللجوء إلى الدين، قررت أن أعمل بائع خضار. لمَ لا؟! لقد جربت في الأردن أن أعمل مندوب دعاية وإعلان، وفي طفولتي في الخليل جربت كثيراً من الأعمال التي زرعتْ في نفسي قابلية لمزاولة أي عمل شريف مقابل أن أعيش بكرامة.
كسرت هذا الحاجز النفسي ـــ "شهادة الدكتوراة"، سأعمل بائع خضار حتى وأنا أحمل شهادة الدكتوراة في الفلسفة. شهادة الدكتوراة لن تضفي على البطاطا مذاقاً مختلفاً، لكن البطاطا ستؤمِّن لي عيشاً كريماً يغنيني عن "الإمبراطور!" وأمثاله.

ولأنه "لكل مقام مقال" تذكرت أبياتاً للشاعر العراقي جان دمّو:
" لن نتخلى عن المريخ
طالما أن البطاطا
هي القوة الدافعة
للوجود "

ذهبت مع الرفيق "أبو عماد الشكلنص" إلى سوق الهال في دمشق، وكان بائع خضار في سوق التقدم في مخيم اليرموك. كنا نذهب باكراً في الصباح إلى السوق للتبضع، وقد رافقته 3 أيام حتى "أتمرن" و "آخذ على جو" سوق الهال.
كنت أسكن في بيت "ملحق" على السطح في بناية جاموس في حي التقدم قرب السوق، وفي أسفل البناية فرن أبو خالد جاموس.
صديق ظريف حين علم أنني أسكن في "ملحق" على سطح البناية قال لي:
" هكذا تكون أقرب إلى الله" !
اشتريت عربة خضار مستعملة من سوق الهال بمبلغ 2000 ليرة سورية. لم أجرؤ على وضع العربة أمام البناية خشية أن تُسرق. وجدتُ حلاً لمشكلة "تبييت" العربة عندما عرض عليَّ الصديق عادل عمر أبو نورس محله في شارع القدس، كذلك عرض عليَّ الصديق عبد الكريم عيد الحشاش أبو أحمد محله "الهنغار" فاخترت هذا المحل لتبييت العربة لأنه أقرب إلى بيتي وإلى السوق.
بعد تأمين العربة ذهبت مع أبو عماد الشكلنص إلى سوق الهال كي يشتري كلٌّ منا بضاعته. أذكر أنني اشتريت ليموناً وتفاحاً وعنباً.
وقفتُ خلف عربتي في سوق التقدم من الصباح حتى الساعة الرابعة بعد الظهر، بلا ماء ولا طعام، وسط حرارة شهر آب اللّهاب.
لاحظني بعض الأشخاص الذين يعرفونني. استغربوا وذُهلوا. معقول.. الدكتور عدنان جابر، الكاتب والصحفي المناضل والجريح والأسير السابق بائع خضار؟!
في الواقع، كان سوق الخضار يعج بالعديد من الفدائيين والجرحى والمناضلين والكوادر العسكرية الذين تحولوا إلى بائعي خضار. إذن لم أكن وحدي. ربما أن صفتي ككاتب وصحفي وأسير سابق وأحمل شهادة دكتوراة ولأني معروف في أوساط المقاومة في مخيم اليرموك هي التي جعلت البعض ممن رآني وعلم بالأمر يستغرب ويصاب بالذهول من أن أكون بائع خضار.
بل إن هناك مسؤولاً في فصيل فلسطيني له بقالية في سوق فلسطين في المخيم يبيع الحبوب والسمن والسكر، قلة من الناس يعرفون أنه، مثلي، يحمل شهادة دكتوراة في الفلسفة من بلغاريا. لكن هذا المسؤول المتواضع والطيب الذي يعرفه الكثيرون وهو الرفيق "أبو ربيع" (أبو الجاسم) من جبهة التحرير الفلسطينية الذي كان يستخدم الدراجة الهوائية و"الطرطيرة" ذات الثلاث عجلات وسيلة للمواصلات، ولم يكن له سيارة ومرافق كالآخرين من المسؤولين في المقاومة، خرج باستنتاج مبكر بأن بيع الرز والعدس سيؤمن له كرامة العيش، لا شهادة الدكتوراة.
بعض الرفاق غضب لأن عدنان جابر تحول إلى بائع خضار، بينما اعتبر رفاق آخرون أن تحول شخص مثلي إلى بائع خضار هو إحراج وفضيحة للجبهة الشعبية !
أما أنا، فلم أكن أفكر في كلام الناس وتعليقات وتقييمات الرفاق، ولم أفكر في إحراج أحد، كان يهمني فقط أن أعيش، أعيش بكرامة، بعرق جبيني، وألم قدمي!
نعم، قدمي التي منعتني من أن أكون بائع خضار لأكثر من يوم، يوم واحد فقط!
فبعد عدة أيام من التجول في سوق الهال مع الرفيق أبو عماد الشكلنص، ثم دفع عربتي بما عليها من بضاعة، والوقوف في "سوق التقدم" لساعات طويلة وسط الحر الشديد، تورمت قدمي بشكل كبير.
وقدمي اليسرى هذه، المصابة منذ 5 حزيران يونيو 1969، ولم يلتئم جرحها حتى الآن، وأغيِّر عليها بنفسي، قدمي التاريخية هذه التي سُجنت معي وخرجت من السجن معي ورافقتني في السراء والضراء، وستذهب معي إلي القبر، قدمي التي صمدت معي 48 سنة حتى الآن، وقد تجاوز عمري الستين، بينما هناك دول لا تصمد 6 أيام، قدمي هذه التي فيها 60 شظية لا تحتمل الحر وتفضل البرد والإبتعاد عن المدفئة، لأن شظايا رصاص "الدمدم" المنتشرة فيها تسخن وتتحرك بفعل الحرارة، فتلسع مثل الكهرباء، وتسبب الألم والتورم .
بعد يوم العمل المشهود كبائع خضار، ذهبت لتبييت العربة في محل الصديق أبو أحمد الحشاش، ثم ذهبت إلى بيتي "الملحق" على السطح. أذكر شيئاً واحداً: أخرجت من البراد زجاجة ماء بارد وشربتها دفعة واحدة، ثم استلقيت على السرير، وحدقت في السقف!
أخبرني الطبيب، أن عليَّ أن ارتاح مدة أسبوع على الأقل، لأن قدمي في حال صعبة..

ربما يسأل البعض: ما دخل المخابرات بما أرويه، وما علاقة المخابرات بعنوان : دكتور في الفلسفة: بائع خضار؟!
ثمة علاقة سببية. فلو لم تتطاول المخابرات الأردنية على جواز سفري، ولو لم تتدخل وتمنع تثبيتي في وظيفة دكتور محاضر لمساق "تاريخ الفكر والحضارة الإنسانية " في كلية العلوم التربوية التابعة للأونروا، في المقابلين قرب عمان، عام 1995، ثم تقوم لاحقاً بإبعادي من البلاد لكنت الآن دكتوراً في تلك الجامعة، ولعشت حياة مستقرة، دكتوراً في جامعة، وبراتب محترم!

تسلطت المخابرات الأردنية على جواز سفري ولقمة عيشي لأنني رفضت العمل معها، لأنني أومن بأن الإنسان يمكن أن يخسر أشياء كثيرة لكن عليه ألا يخسر نفسه، وأن من يبيع نفسه مرة يمكن أن يبيعها مرة ثانية، وثالثة...

بعض الناس، ومنهم مقربون جداً، يعاتبونني لأني لم أؤلف وأصدر سوى 3 كتب، في فترات متباعدة، هي: 
1- ملحمة القيد والحرية، عالم أسرى المقاومة الفلسطينية في سجون العدو الإسرائيلي، دار الطليعة بيروت 1979.
2- الثوب والعنب، في سوسيولوجيا الثورة الفلسطينية، إصدار خاص، مطبعة نضر، دمشق 1994.
3- العرب وعصر ما بعد النفط، دار علاء الدين، دمشق 2004.
أعرف أن عتب هؤلاء يصدر من نوايا طيبة، لكن الكتابة والتأليف وإصدار الكتب يتطلب حداً أدنى من الإستقرار المعيشي والنفسي، ويتطلب توفر إمكانية مالية، لأنه في زماننا هذا، كقاعدة لا تمنع الإستثناء، عليك أن تقوم بتمويل إصدار كتبك بنفسك.
لكن، كيف لي أن أكون مبدعاً غزير الإنتاج ولي مثل هذه الحياة، وخلفي سنوات من الأسر الصعب لدى الأعداء، والإقامة في المستشفيات في دول عديدة في العالم، والتشرد من بلد إلى بلد بسبب أنظمة المخابرات والإستبداد؟!
كيف لي أن أصدر كتباً (ولديَّ مخطوطات شعرية وقصصية ومشاريع بحثية تنتظر النشر) وقد سافرت بالديْن من سوريا إلى بلغاريا، كي أدفن إبني مارسيل هناك في الغربة، وأنتظر 5 سنوات كاملة كي يتوفر لي مبلغاً من المال حتى استطعت أن ألبسه قبراً لائقاً؟!

كيف لي أن أكون مبدعاً غزير الإنتاج، أيها الأعزاء، بينما أصاب بالكآبة حين أسمع "بلاد العرب أوطاني"، وحين تضاف إلى معاناتي من الأعداء معاناتي من "الأشقاء"، وحين تكون لي هذه الحياة غير المستقرة، وأنا "على قلق كأن الريح تحتي" ؟!
هناك مثل يوناني يقول: الحجر المتدحرج، لا ينبت عليه العشب !.

الآراء المطروحة تعبر عن رأي كاتبها وليس بالضرورة أنها تعبر عن الموقف الرسمي لموقع " ريال ميديا "

اقرأ المزيد

تحقيقات وتقارير

ثقافة وفن

مساحة اعلانية

آراء ومقالات

منوعات